بياتريس (Béatrice) فتاة فرنسية جميلة وهادئة، وضعتها الحياة في طريق عليّ الشاب التونسي المتعلم والمثقف الفقير، اصابهما الحب فتزوّجا وعادا الى تونس قبل 27 عاما، وانجبا ثلاث بنات، الا ان العائلة اليوم متكونة من ثلاثة فقط، فبياتريس، وابنتها فريال التي لم تتجاوز ربيعها الحادي عشر اخذهما حادث مرور في رحلة ابدية بلا عودة. الأب وهو في الخمسين من العمر واسمه السيّد علي الغربي، لم يكن يريد نشر حكايته مع بياتريس وفريال على اعمدة الصحف، بل وكان يرفض حتى التحدث عن المأساة. الا ان استعدادات الاطفالللعودة المدرسية اثقلت عليه ثقل الانسان على اخيه الانسان. اتصل بي واقترح التحدّث والبوح اليّ، فالتقيته ولقيته ثقلا تراجيديا لا يبعد كثيرا عن حكايات الاغريق. كفاح من أجل العائلة حدّثني السيد علي الغربي قال: «أنا ابن الدفعة الاولى في تونس للتقنيين السامين تخرجت في اختصاص كيمياء الجلود وسافرت الى فرنسا في السبعينات حيث تعرفت على بياتريس التي تعمل مروّضة اطفال، احببتها فتزوّجتها وبعد يومين من الزواج اخذتها وسافرنا الى منزل بورقيبة في اوت 1977 ثم انتقلنا في نفس السنة الى قرمبالية حيث كان المستقرّ». ويواصل محدثي كلامه محاولا اخفاء دموعه بابتسامة رأيتها ساخرة. «انجبت بياتريس البنت الكبرى حياة البالغة من العمر اليوم 25 سنة ثم البنت الوسطى صابرين 21 سنة والصغرى المدللة فريال 11 سنة.. وكانت حياتنا سعيدة وهانئة، وتمكنت بياتريس من تحقيق النجاح في دار الحضانة التي اشرفت عليها بعدما بنتها بجهدها، ولم تأت مناسبة وطنية او دينية الا وتقدّم بياتريس المساعدات الضرورية للمحتاجين، وكانت كثيرة التبرّع بما لديها لكل محتاج في الجهة حتى اصبحت معروفة لدى الجميع بأخلاقها العالية وحبها لأهالي قرمبالية وخاصة تعلقها وحبها الشديد للاطفال». «أما فريال فهي البنيّة الصغيرة والأكثر دلالا، والأكثر مرضا ايضا، كانت ناشطة شديدة الحيوية مشاغبة احيانا هادئة احيانا اخرى، نجحت في دراستها وكانت تواصل الدراسة باحدى المدارس الابتدائية بقرمبالية بهدوء مثلها مثل كل اطفال المدارس، الى ان طرأ ما سيغيّر مجرى حياتنا بصورة جذرية، عندما عاقبت احدى المعلمات ابنتي فريال واسندت لها صفرا في مادة العربية خلال الثلاثي الثاني». بداية المأساة قال السيد علي الغربي انه حاول الاتصال بهذه المعلمة عن طريق احد اقاربها لمعرفة الاشكال المتعلق بفريال ابنته الصغرى فكان ردّ المعلمة ان المسألة متعقلة بوالدتها بياتريس وهنا تداخلت العلاقة بالأم بالمصير الدراسي للبنت. وخوفا من ان يصيب ابنته الفشل فلقد قرّر بعد نقاش مع زوجته نقل البنية الى نابل وتسجيلها بمدرسة خاصة لتواصل دراستها ولتفادي ازعاج مدرّستها السابقة. الوداع الأخير فعلا تم تسجيل فريال باحدى المدارس الخاصة بنابل، وتمكنت سريعا من التلاؤم مع هذا الفضاء الجديد وتلاميذه ومدرّسيه وادارته وقد تكفلت «بياتريس» الأم بنقل ابنتها فريال يوميا من قرمبالية الى نابل عن طريق السيارة. يوم 11 جوان الفائت، توجهت بياتريس صباحا الى بعض الصيدليات واخذت منها بعض الأدوية ثم عادت الى المنزل لتصطحب ابنتها فريال للتوجه الى نابل من اجل التبرّع بالأدوية الى احدى مؤسسات رعاية الطفولة ولاسترجاع بعض ادباش البنية التي ابقتها بالمدرسة. بعد ان انهت الأم شؤونها قررت العودة الى منزلها صحبة ابنتها فريال. في الجهة المقابلة، قال السيد علي الغربي، الذي غلبته الدموع «بقيت انا وابنتي صابرين في المنزل ننتظر بياتريس وفريال لنتناول طعام الغداء، وكان مرتقبا قدومهما مع منتصف النهار، الا ان الوقت مرّ دون عودتهما، اعلنت الساعة عن منتصف النهار والنصف ثم الواحدة إلا الربع... ولم تأت بياتريس وفريال. الساعة الواحدة مساء رنّ جرس الهاتف فرفع السماعة ليسمع صوتا قادما من المستشفى وتم ابلاغ العائلة بأن بياتريس وفريال تعرضتا لحادث مرور مروّع. هبّت العائلة وتوجه الاب وابنته صابرين الى مكان الحادث، في «المهاذبة» البعيدة عن قرمبالية قرابة 8 كلم. مع وصولهما الى المستشفى كان خبر المصيبة اذ توفيت فريال على عين المكان فيما بقيت بياتريس تصارع الموت لساعة اخرى قبل ان يعلن الطبيب وفاتها. وقد تبيّن ان صورة الحادث تمثلت في انزلاق السيارة التي كانت تركبها الأم وابنتها في «بقعة مازوط» وسط الطريق واثناء الانزلاق صدمت شاحنة ثقيلة كانت قادمة من الاتجاه المعاكس السيارة فلم تبق فيها غير بعض الحديد وكثير من الدم. فريال لن تعود الى المدرسة أبدا بعد وفاة الأم وابنتها، اصبحت العائلة اليوم تعيش مأساة حقيقية فغيابهما اثر كثيرا على البنتين حياة وصابرين والأب علي. السيد علي الغربي ألحّ عليّ في ختام لقائي به ان اكتب بأن فريال لن تعود الى المدرسة أبدا.