كانت مشاركتي في المهرجان الشعر العالمي يإيطاليا في أوائل شهر أفريل 2011 مركزة على قصائدي التي اختارها الدكتور صلاح محاميد من شعري الذي كتبته بالعربية من وحي إيطاليا منذ أواخر الخمسينيات من القرن الماضي إلى أوائل القرن الحالي ونشرها في إيطاليا مترجمة إلى لغة دانتي في كتاب صغير، وعندما استمع ذلك الجمهور إلى تلك القصائد في لغتها الأصلية أحسوا بموسيقى الشعر وبتوقيع القوافي طربوا لها أيما طرب وعبروا عن ذلك في الحوارالذي دار بيننا رغم أنه قد شاع لدى المثقفين عن الإيطاليين قولهم: (المترجم خائن). وقد أكد الجاحظ قبل ذلك هذا الرأي في مقدمة كتابه الحيوان في قوله: (...والشعر لا يُستطاع أن يُترجم، ولا يجوز عليه النقلُ، ومتى حُوِّلَ تقطّع نظمُه، وبطل وزنُه، وذهب حسنُه، وسقط موضعُ التعجُّبِ منه، وصار كالكلام المنثور. والكلامُ المنثورُ المبتَأ ُ على ذلك أحسنُ وأوقعُ من المنثور الذي حُوِّلَ من موزونِ الشعرِ). ولشدة إيمان العرب، في عصر الترجمة العباسي، بصحة هذا الرأي، ترجموا فلسفةَ اليونانيين وعلومَهم مثل كتب سقراط وأفلاطون وأرسطو وسواهم، وأحجموا عن ترجمة أشعار هوميروس وأمثاله، ولكننا، رغم ذلك، نعتقد أن الترجمة الجيدة التي تتوفر فيها موسيقى الشعر، لا يرفضها الجاحظ ولا يرى فيها بأسا. وبهذه المناسبة أذكر أنه قد وقع بين يديّ كتيب صغير كتبته جيورجيا بولاستريGiorgia pollastri بعنوان: [Plume = ريشات] وهو عبارة عن لمحات شعرية مركزة راقتني مضامينها، رغم أني لست أدري مدى تقيد صاحبتها بالوزن والقافية في لغتها الأصلية، وأن ترجمتها إلى العربية لا تخلو من ضعف وأخطاء، فقد حاولت صياغة بعضها بطريقة الشعر الحر تارة، وطورا بطريقة الشعر العمودي – معتمدا على الترجمة الحرفية الأصلية، ومستعينا بتوضيحات الدكتور صلاح محاميد لبعض المعاني فكانت هذه الترجمة التي صغتها على تفعيلة الخبب للنص الأول من نصوصها. (والملاحظ أني قد وضعتُ سطرا مائلا بين سطور الترجمة الأصلية للاختصار): «أما بعد/فستبدو فوق الصفحات البيضاءْ/بعضُ الكلماتْ/أما بعد/فسيَجمع شخص مَّا/ كلَّ تحدّي الأزمانْ/وستمتدُّ الكلماتْ/لِتعانق ثانيةً هذي الأكوانْ». ومن تلك النصوص هذا النص الذي وقعت ترجمته إلى العربية هكذا: (كسيفٍ فِضِِّي/ يظهرُ/يمزِّقُ شبكةً/من ضباب.) وقد صغته صياغتين عموديتين الأولى على البحر الخفيف هكذا: مثلَ سيفٍ من فضّةٍ راح يَفْري كتلةً قد تجمَّعتْ من ضبابِ والصياغة الثانية على البحر الوافر هكذا: بدا لي مثل سيف من لُجَيْنٍ يمزِّقُ حدُّه ثوبَ الضبابِ واللجين هو الفضة وقد فرَضَه هنا الوزن. ومنها هذه اللمحة الأخرى المترجمة على هذا الشكل «أنتَ غير موجود/تختفي الشمس/الضبابُ يختفي» وقد صغتها صياغة موزونة على الوافر العمودي هكذا: تغيب الشمس إمَّا غبتَ عنّي ويخنقني، بظلمته، الضبابُ هذا بالنسبة إلى صاحبة مجموعة (ريشات) أما الشاعر الإيطالي الكبير (جينو باستيغا) GINO PASTEGA الذي كنت أسمع به ولم أكن قد رأيته من قبل، فقد عرفت أنه هو الذي سيقدمني إلى الجمهور في فينيسيا فطلبت من الدكتور صلاح أن يترجم لي القصيدة الأولى من ديوانه وهي بعنوان (النار) فترجمها ترجمة حرفية سريعة، ثم صغتها بالاعتماد عليها شعرا حرا على تفعيلة الخبب هكذا: نار تتوقدُ باللَّهَبِ/كلماتٌ تعدو..لا تتوقف كالشُّهُبِ/تأتي متسابقة برسائلَ قُدْسيَّهْ/كأشعّةِ ضوءٍ نورانيَّهْ/تترك آثارا من نور وضياءْ/كبقايا التبن على دربِ التبّانهْ/تأتي متهاديةً نشوانَهْ/كلهيبٍ فوق مجرَّاتِ الأجواءْ/لتنيرَ ليالي الصمت الصمّاءْ/حتى تبلغ كلَّ مكانْ/من ذهن الإنسانْ/في الأرض وفي الأكوانْ/حتى تتوحَّدْ/معَ كلِّ الأشياءْ/تخترق الأشياءْ/تُشعل فيها النيرانْ/.. وفي المساء ذهبت إلى قاعة الاجتماعات في فينسيا فاكتشفت أن المنشطة التي قرأت شعري المترجم إلى الإيطالية هي صاحبة مجموعة «ريشات» التي لم أكن أعرفها قبل ذلك، فطلبت منها أن تقرأ أصول المقاطع التي صغتها صياغة شعرية موزونة، وقرأتُها بعدها كما صغتها باللغة العربية أمام الجمهور بحضورها، فكان انطباع الجميع رائعا. أما (الشاعر جينو باستيغا) فقد طلبت منه في تلك السهرة الشعرية أن يقرأ قصيدته (النار) ثم قرأت إثرها الصياغة العربية الشعرية التي قمت بها لقصيدته، ففوجئ بتلك الترجمة الموسيقية لقصيدته، وتمنى أن يكون له لقاء مع الجمهور التونسي يقرأ فيه شعره بلغته مصحوبا بترجمتها إلى العربية على نمط تلك الترجمة، فقلت له: نرجو ذلك عندما نتمكن من أن نجعل شعره ناطقا باللغة العربية الفصحى.