٭ بقلم: النقيب محسن الكعبي (٭) ما هو المقصود بالأمن الاستراتيجي حتى نحدد احتياجاته ومتطلباته... وكيف نبني ونهيئ وندرب أبناءنا في هذه المرحلة الانتقالية الدقيقة ليقوموا بمسؤولية هذا الأمن لمصلحة بلادهم التي أصبحت أكثر بلدان العالم تألقا بفضل ثورتها التاريخية ثورة الكرامة والحرية، التي أطاحت بأكبر طاغية في تاريخنا الحديث... والتي تميّزت عن بلدان كثيرة في العالم بثورتها هذه وبموقعها الاستراتيجي ومكانتها التاريخية، والتي تستحق ان يبذل من أجل تأمينها واستقرارها الغالي والنفيس بلا تردد تجاه المحافظة على سلامة أراضيها وأمنها، لأنهم يعلموا علم اليقين بأن هذه الارض هي كرامتهم، هي عزتهم، هي كل شيء بالنسبة إليهم؟ فالأمن هو الاستقرار والسلام والطمأنينة. وهو الأساس لقيام كل حياة مزدهرة، ومتطوّرة. ولقد كان أول دعاء لسيدنا ابراهيم عليه السلام هو ان يطلب الأمن للبلد الحرام مكة المكرّمة قبل ان يدعوه بأي شيء آخر {وإذ قال ابراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات} وهكذا جاء «الأمن» أسبق وأهم من «الرزق». فإذا توفّر الأمن وانطلق كل فرد في المجتمع يعمل وهو مطمئن ازدهرت الحياة واتسعت المعاملات مع المجتمعات الأخرى. وهكذا نرى ان أساس البناء والتنمية والرخاء هو الاستقرار والأمن. ولكن ما هي أبعاد هذا الأمن؟ وهل يقصد به أمن الانسان على حياته وأمواله وممتلكاته؟ وهل هناك مجالات أخرى لمفهوم الأمن وراء ذلك وأكثر منه؟ والجواب: نعم. فالأمن يتعلق بكل نعمة أنعمها الله على الانسان ولا يمكن حصر هذه النعم «وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها» وهذا يعني ان مظاهر الأمن أوسع بكثير من أن نحصرها أو نحدد لها معالم معيّنة. فهناك الأمن على الحياة والأموال، وهناك الأمن على الرأي والفكر وحرية التفكير، والأمن على الحرية في القول والعمل، والأمن على صحة الانسان وسلامته من أي خطر او مرض، وهناك الامن الغذائي بما يتضمنه من تأمين لقمة الخبز وجرعة الماء وحبة الدواء. فهناك مجتمعات كثيرة تتوفّر لها كل أسباب الرخاء ولكنها لا تضمن لنفسها استمرار وفرة حاجتها من الغذاء بالتوقف وبالحصار وبالتعرض الى أخطار كثيرة قد تكون بسبب ظروف طبيعية من جفاف او قحط او أعاصير او تقلبات جوية قد توقف قوافل السفن او الشاحنات التي تنقل الواردات الغذائية والتموينية، وقد تقل موارد الماء، مما يتطلب انفاق الكثير من المال والجهد لتأمين اي موارد مائية لتقوم الحياة وتستمر في أمان. درس ومثال من قصة يوسف عليه السلام: ولقد رأينا في قصة يوسف عليه السلام عندما نصح عزيز مصر وهو يفسّر له رؤياه في قصة البقرات السمان والبقرات العجاف والسنابل السبع، {قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (} (يوسف 474849). فقد أوحى الله سبحانه الى نبيّه يوسف بأن يحدد أسس الأمن الغذائي لتشمل: التخزين الاستراتيجي او إعداد الاحتياطي الاستراتيجي من القمح ليحفظ في سنابله في سنوات الرخاء السبع ليكون مصدرا لتأمين احتياجات الناس القحط، وأن تحفظ تلك السنابل بما تضمه من القمح الاحتياطي في مطامير او مستودعات محصنة لتحفظها من التعرض للتلف. وضع خطة او سياسة للترشيد في الاستهلاك، حتى يتوفّر من محصول سنوات الرخاء ما يكفي ليكون احتياطيا يستهلكه الناس في سنوات الشدة. وإن مثل هذه الأمور تحتاج الى انضباط ووعي وفهم وتعاون في سلوك الناس لترشيد الاستهلاك لاجتياز فترة الشدة بسلام، وبذلك كله يتحقق الامن الغذائي وهو مجرد شريحة أو قطاع من قطاعات الأمن. صور أخرى للأمن وهناك أيضا الأمن الصناعي الذي يتضمن سلامة السلوك في مجال التصنيع ابتداء من مراعاة الأصول في نقل المواد الصناعية ومستلزماتها، وفي تخزينها وفي صيانة ومعاملة الآلات والمعدّات ومراقبة خطوط الانتاج وإصلاح الأخطاء التي قد تظهر أولا بأول ومراعاة اللّه في المواصفات وعدم الغش فيها. إذ سيتوقف على سلامة المواصفات: أمن العمل والحياة لمن سيتعاملون بتلك المنتجات وكذلك يعني «الأمن الصناعي» حماية وسلامة المرافق الصناعية من التخريب أو التلوث أو الحرائق. فكل المنشآت الصناعية هي مصادر الثروة الوطنية للمجتمع كما أنها هي مصادر الرزق لقطاع كبير من المواطنين. وإن رجاء المجتمع يرتبط مباشرة بقدرته على الانتاج وعلى أداء الخدمات. والمقصود بالخدمات هي الصحة والتعليم والنقل والمواصلات وكل ما يحقق الترقية للمواطنين ليزدادوا استقرارا ماديا ومعنويا ليتفرغوا للعطاء في مجال الانتاج والابداع والتطوير. وهكذا نرى الحياة تعني مفهوما واسعا في العمل والبحث والحركة والتفكير والسلوك ومراعاة اللّه والاحساس بالمسؤولية والحرص على أداء الأمانة بالاحسان في العمل. فكل فرد في المجتمع يمثل حلقة متشابكة مع حلقات أخرى من أبناء وطنه والجميع يعملون لخدمة بعضهم بعضا «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته» فالحاكم مسؤول عن أمن رعاياه وعن أداء حقوقهم وله عليهم طاعته وولائهم له وأداء واجباتهم نحو وطنهم ونحو بعضهم بعضا ولو صح ذلك لتحقق المفهوم الأساسي للأمن بكل أركانه. من مظاهر الأخطار المحتملة: والآن نرى أن الأمن الاستراتيجي يتضمن كل مظاهر ومفاهيم الأمن في كل وقت وضد أي خطر سواء كان هذا الخطر عسكريا يهدد سلامة البلاد أو اقتصاديا يهدد موارد البلاد أو يؤثر على مصادر ثروتها، أو معنويا يهدد حرية المواطنين في معتقداتهم وأفكارهم وآرائهم، أو غذائيا يهدد حياة الأفراد أو جنائيا يهدّد حياة الأفراد وممتلكاتهم أو سياسيا يهدد الهيكل السياسي الذي ينظم مسيرة الحياة للمجتمع في الداخل والخارج. إذن تعدّدت الساحات التي يجب أن يتحقق فيها الأمن ومن خلالها، وهذا يعني حتمية التأهيل والاستعداد لمواجهة كل هذه الأخطار المحتملة والتي قد يتعرض لها أي مجتمع في أي وقت وأي اتجاه. ولقد أمرنا اللّه سبحانه بالحذر و«احذروا حذركم». كما أمرنا جل جلاله بالاستعداد بكل ما نملك من قوة، فالاستعداد للوقاية خير من الاستعداد للدفاع وخير من الاستعداد المتأخر الذي نحتاجه بعد أن تقع الواقعة، ويقول في ذلك جل شأنه: «واعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو اللّه وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم اللّه يعلمهم». وكيف نستعد؟ ومن هنا نسأل كيف نعد أنفسنا أو كيف نستعد من أجل ضمان تحقيق واستمرار الأمن ومن أجل درء الخطر أيا كان مصدره وكيفما كانت أسبابه. والجواب هو بأن نهيّئ أنفسنا في حدود مفهومنا لمتطلبات الأمن بمعنى أن يكون الاهتمام بالدرجة الأولى في بناء الانسان وتأهيله لمواجهة مسؤوليات الأمن بكل متطلباته وأن نقسم أنفسنا على قطاعات العمل الأمني وذلك باعداد مراكز التدريب وتخصيص الدراسات الفنية والمهنية لتخريج متخصصين للعمل في كافة القطاعات: الانتاج والخدمات، وأن ندرك تماما أن هيكل العمل الأمني يقتضي تعاونا شاملا من القاعدة الى القمة بمعنى ضرورة توفر الاطارات الفنية من كل المستويات ابتداء من العامل إلى الملاحظ الى المهندس الى الطبيب الى المتخصص في كل قطاع. وأن الحياة تقوم على تبادل الخدمات وتعاون الجهود فهناك من يدرس هندسة الانتاج الفلاحي وما نحتاجه من هندسة الري والبحث عن المياه الى من يرعى الثروة الحيوانية الىمن يفلح الأرض ويرويها الى من ينقل محصولها الى من يحميه من أخطار الحشرات، الى من يبني له مستودعاته ويجهزها بالضروريات المحصنة لها، الى من يوفر له رأس المال اللازم للاستثمار والى من ينسق له استيراد البذور وتصدير فائض المحصول أو تصنيعه وتوزيعه. وهكذا نرى دورة الحياة تتشابك فيها التخصّصات والجهود على كل مستويات العمل. ومن المسؤول: وحتى لا يطول حديثنا أو تساؤلنا نقول في الختام إن الكل مسؤول وأن إعداد الشباب التونسي لمسؤولية الأمن الاستراتيجي تتطلب جهودا كبيرة تشترك فيها كل الوزارات والمؤسسات الوطنية والمؤسسات الخاصة وأن توضع برامج مدروسة يشترك فيها أخصائيون في الأمن الاستراتيجي الموسع وأخصائيون في قطاعات العمل المختلفة من تعليم وصحة وإعلام ووعظ وإرشاد ونقل ومواصلات ودفاع ولا بدّ أن يعاد النظر في برامج التعليم لغرض التأهيل المهني والفني ولو بدرجة معينة على كل الشباب، فهم عدة الوطن. وحتى توجد لديهم مبادئ فنية تعينهم على المشاركة في الخدمات والانتاج في حالات الطوارئ. إننا في حاجة الى تطوير في مفاهيمنا وإلى شرح معاني وأبعاد المسؤولية. وهناك تصورات كثيرة إذا تعرضنا لمعالجتها لرأينا أننا في حاجة ماسة الى البدء فورا في التوعية المنطقية لكل المواطنين لتعريفهم بواجباتهم وفي الاعتدال وفي استهلاكهم وفي الترشيد الاستهلاكي بصورة عامة، وفي الحث على التعاون وتغيير أسلوب الحياة. هكذا تبدأ أول خطوة على طريق التوعية الاستراتيجية بالمفهوم السهل المبسط الممكن تطبيقه وتدريجيا تتطور برامج التوعية لتتبعها برامج الاعداد والتأهيل. إن حب أهل هذا البلد لوطنهم لا يأتي الا من حبهم لله، وحب الارض، والدفاع عنها واجب مقدس. فلنكن جميعا في مستوى المسؤولية، ولنكن اسرة تونس الاسرة الواحدة المحبة للخير والسلام، حفظ الله تونس وشعبها من كل مكروه والله الموفق. ٭ ضابط محال على التقاعد في عهد الرئيس المخلوع