ما هو المقصود بالأمن الاستراتيجي حتى نحدد احتياجاته ومتطلباتهكيف نبني و نهيئ و ندرب أبنائنا في هذه المرحلة الانتقالية الدقيقة ليقوموا بمسؤولية هذا الأمن لمصلحة بلادهم التي أصبحت أكثر بلدان العالم تألقا بفضل ثورتها التاريخية ثورة الكرامة والحرية، التي أطاحت بأكبر طاغية في تاريخنا الحديث... والتي تميزت عن بلدان كثيرة في العالم بثورتها هذه و بموقعها الاستراتيجي ومكانتها التاريخية، والتي تستحق أن يبذل من اجل تأمينها واستقرارها الغالي والنفيس بلا تردد تجاه المحافظة على سلامة أراضيها وأمنها، لأنهم يعلموا علم اليقين بان هذه الأرض هي كرامتهم، هي عزتهم، هي كل شيء بالنسبة إليهم؟ فالأمن هو الاستقرار والسلام والطمأنينة. وهو الأساس لقيام كل حياة مزدهرة ومتطورة ولقد كان أول دعاء لسيدنا إبراهيم عليه السلام هو أن يطلب الأمن للبلد الحرام مكةالمكرمة قبل أن يدعوه بأي شيء آخر »وإذا قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات« وهكذا جاء »الأمن« اسبق و أهم من »الرزق« فإذا توفر الأمن وانطلق كل فرد في المجتمع يعمل وهو مطمئن ازدهرت الحياة واتسعت المعاملات مع المجتمعات الأخرى، وهكذا نرى أن أساس البناء والتنمية والرخاء هو الاستقرار والأمن. ولكن ما هي أبعاد هذا الأمن؟ و هل يقصد به امن الإنسان على حياته و أمواله و ممتلكاته وهل هناك مجالات أخرى لمفهوم الأمن وراء ذلك وأكثر منه والجواب نعم. فالأمن يتعلق بكل نعمة أنعمها الله على الإنسان ولا يمكن حصر هذه النعم »وان تعدوا نعمة الله لا تحصوها« وهذا يعني أن مظاهر الأمن أوسع بكثير من أن نحصرها أو نحدد لها معالم معينة، فهناك الأمن على الحياة والأموال، وهناك الأمن على الرأي والفكر وحرية التفكير، والأمن على الحرية في القول والعمل، والأمن على صحة الإنسان وسلامته من أي خطر أو مرض ، وهناك الأمن الغذائي بما يتضمنه من تامين لقمة الخبز وجرعة الماء وحبة الدواء، فهناك مجتمعات كثيرة تتوفر لها كل أسباب الرخاء ولكنها لا تضمن لنفسها استمرار وفرة حاجتها من الغذاء لعدم توفر مصادره فيها ولاضطرارها إلى جلب حاجتها واستيرادها من الخارج فبذلك أصبح الأمن الغذائي لها مهددا بالتوقف وبالحصار وبالتعرض لأخطار كثيرة قد تكون بسبب ظروف طبيعية من جفاف أو قحط أو أعاصير أو تقلبات جوية قد توقف قوافل السفن أو الشاحنات التي تنقل الواردات الغذائية والتموينية، وقد تقل موارد الماء ، مما يتطلب إنفاق الكثير من المال والجهد لتامين أي موارد مائية لتقوم الحياة وتستمر في أمان. ❊ درس و مثال من قصة يوسف عله السلام: و لقد رأينا في قصة يوسف عليه السلام عندما نصح عزيز مصر وهو يفسر له رؤياه في قصة البقرات السمان والبقرات العجاف والسنابل السبع، »قال تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا مما تأكلون ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلون ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحصون ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس و فيه يعصرون« يوسف: 47، 48، 49. . فقد أوحى الله سبحانه إلى نبيه يوسف بان يحدد أسس الأمن الغذائي لتشمل: ❊ التخزين الاستراتيجي أو إعداد الاحتياطي الاستراتيجي من القمح ليحفظ في سنابله في سنوات الرخاء السبع ليكون مصدرا لتامين احتياجات الناس في سنوات القحط ، وأن تحفظ تلك السنابل بما تضمه من القمح الاحتياطي في مطامير أو مستودعات محصنة لتحفظها من التعرض للتلف. ❊ وضع خطة أو سياسة للترشيد في الاستهلاك، حتى يتوفر من محصول سنوات الرخاء ما يكفي ليكون احتياطيا يستهلكه الناس في سنوات الشدة. ❊ وإن مثل هذه الأمور تحتاج إلى انضباط ووعي وفهم وتعاون في سلوك الناس لترشيد الاستهلاك لاجتياز فترة الشدة بسلام، وبذلك كله يتحقق الأمن الغذائي وهو مجرد شريحة أو قطاع من قطاعات الأمن. ❊ صور أخرى للأمن وهناك أيضا الأمن الصناعي الذي يتضمن سلامة السلوك في مجال التصنيع ابتداء من مراعاة الأصول في نقل المواد الصناعية ومستلزماتها، وفي تخزينها وفي صيانة ومعاملة الآلات والمعدات ومراقبة خطوط الإنتاج وإصلاح الأخطاء التي قد تظهر أولا بأول ومراقبة الله في المواصفات وعدم الغش فيها .إذ سيتوقف على سلامة المواصفات: امن العمل والحياة لمن سيتعاملون بتلك المنتجات و كذلك يعني »الأمن الصناعي« حماية وسلامة المرافق الصناعية من التخريب أو التلوث أو الحرائق . فكل المنشات الصناعية هي مصادر الثروة الوطنية للمجتمع كما أنها هي مصادر الرزق لقطاع كبير من المواطنين. وإن رخاء المجتمع يرتبط مباشرة بقدرته على الإنتاج وعلى أداء الخدمات والمقصود بالخدمات هي الصحة والتعليم والنقل والمواصلات و كل ما يحقق الترقيه للمواطنين ليزدادوا استقرارا ماديا و معنويا ليتفرغوا للعطاء في مجال الإنتاج والإبداع والتطوير . وهكذا نرى الحياة تعني مفهوما واسعا في العمل والبحث والحركة والتفكير والسلوك ومراقبة الله والإحساس بالمسؤولية والحرص على أداء الأمانة بالإحسان في العمل . فكل فرد في المجتمع يمثل حلقة متشابكة مع حلقات أخرى من أبناء وطنه و الجميع يعملون لخدمة بعضهم بعضا »كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته« فالحاكم مسئول عن امن رعاياه و عن أداء حقوقهم و له عليهم طاعته و ولائهم له و أداء واجباتهم نحو وطنهم ونحو بعضهم بعضا ولو صح ذلك لتحقق المفهوم الأساسي للأمن بكل أركانه. ❊ من مظاهر الأخطار المحتملة والآن نرى أن الأمن الاستراتيجي يتضمن كل مظاهر و مفاهيم الأمن في كل وقت وضد أي خطر سواء كان هذا الخطر عسكريا يهدد سلامة البلاد أو اقتصاديا يهدد موارد البلاد أو يؤثر على مصادر ثروتها، أو معنويا يهدد حرية المواطنين في معتقداتهم و أفكارهم وآرائهم ، أو غذائيا يهدد حياة الأفراد، أو جنائيا يهدد حياة الأفراد وممتلكاتهم ، أو سياسيا يهدد الهيكل السياسي الذي ينظم مسيرة الحياة للمجتمع في الداخل والخارج. إذن تعددت الساحات التي يجب أن يتحقق فيها الأمن ومن خلالها، وهذا يعني حتمية التأهيل والاستعداد لمواجهة كل هذه الأخطار المحتملة والتي قد يتعرض لها أي مجتمع في أي وقت وأي اتجاه، ولقد أمرنا الله سبحانه بالحذر »واحذروا حذركم« كما أمرنا جل جلاله بالاستعداد بكل ما نملك من قوة ، فالاستعداد للوقاية خير من الاستعداد للدفاع وخير من الاستعداد المتأخر الذي نحتاجه بعد أن تقع الواقعة، و يقول في ذلك جل شأنه: »واعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم و آخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم«. ❊ وكيف نستعد ؟ ومن هنا نسأل كيف نعد أنفسنا أو كيف نستعد من اجل ضمان تحقيق واستمرار الأمن ومن اجل درء الخطر أيا كان مصدره وكيفما كانت أسبابه. والجواب هو بان نهيا أنفسنا في حدود مفهومنا لمتطلبات الأمن بمعنى أن يكون الاهتمام بالدرجة الأولى في بناء الإنسان وتأهيله لمواجهة مسؤوليات الأمن بكل متطلباته وأن نقسم أنفسنا على قطاعات العمل الأمني وذلك بإعداد مراكز التدريب وتخصيص الدراسات الفنية والمهنية لتخريج متخصصين للعمل في كافة القطاعات: الإنتاج والخدمات، وأن ندرك تماما أن هيكل العمل الأمني يقتضي تعاونا شاملا من القاعدة إلى القمة بمعنى ضرورة توفر الإطارات الفنية من كل المستويات ابتداء من العامل إلى الملاحظ إلى المهندس إلى الطبيب إلى المتخصص في كل قطاع، وأن الحياة تقوم على تبادل الخدمات و تعاون الجهود فهناك من يدرس هندسة الإنتاج الفلاحي وما نحتاجه من هندسة الري والبحث عن المياه إلى من يرعى الثروة الحيوانية إلى من يفلح الأرض ويرويها، إلى من ينقل محصولها إلى من يحميه من أخطار الحشرات، إلى من يبني له مستودعاته ويجهزها بالضروريات المحصنة لها ، إلى من يوفر له رأس المال اللازم للاستثمار وإلى من ينسق له استيراد البذور وتصدير فائض المحصول أو تصنيعه وتوزيعه، وهكذا نرى دورة الحياة تتشابك فيها التخصصات والجهود على كل مستويات العمل. ❊ ومن المسؤول؟ و حتى لا يطول حديثنا أو تساؤلنا نقول في الختام أن الكل مسؤول وان إعداد الشباب التونسي لمسؤولية الأمن الاستراتيجي تتطلب جهودا كبيرة تشترك فيها كل الوزارات والمؤسسات الوطنية والمؤسسات الخاصة. وأن توضع برامج مدروسة يشترك فيها أخصائيون في الأمن الاستراتيجي الموسع وأخصائيون في قطاعات العمل المختلفة من تعليم وصحة وإعلام ووعظ وإرشاد ونقل ومواصلات ودفاع ولا بد أن يعاد النظر في برامج التعليم لغرض التأهيل المهني والفني و لو بدرجة معينة على كل الشباب ، فهم عدة الوطن، وحتى توجد لديهم مبادئ فنية تعينهم على المشاركة في الخدمات والإنتاج في حالات الطوارئ، إننا في حاجة إلى تطوير في مفاهيمنا وإلى شرح معاني وأبعاد المسؤولية... وهناك تصورات كثيرة إذا تعرضنا لمعالجتها لرأينا أننا في حاجة ماسة إلى البدء فورا في التوعية المنطقية لكل المواطنين لتعريفهم بواجباتهم في الاعتدال في استهلاكهم وفي الترشيد الاستهلاكي بصورة عامة ، وفي الحث على التعاون وتغيير أسلوب الحياة... هكذا تبدأ أول خطوة على طريق التوعية الاستراتيجية بالمفهوم السهل المبسط الممكن تطبيقه وتدريجيا تتطور برامج التوعية لتتبعها برامج الإعداد والتأهيل. إن حب أهل هذا البلد لوطنهم لا يأتي إلا من حبهم لله، وحب الأرض، والدفاع عنها واجب مقدس، فلنكن جميعا على مستوى المسؤولية، ولنكن أسرة تونس الأسرة الواحدة المحبة للخير وللسلام.حفظ الله تونس وشعبها من كل مكروه والله الموفق.