هكذا يتبين –مرة أخرى-أن سن السادسة عشرة ليست سن انتهاء الانتماء إلى التعليم الأساسي وإنما هي سن سريان اجباريته وقد نص عليها مشروع الوزارة صراحة.فما الحاجة إلى التأويل والأمر لا يعدو أن يكون مجرد «لمسات» تلحق الصيغ اللفظية هي كل الفرق تقريبا بين المشرع والقانون. وعليه فلا قرمطة في مدة التمدرس بالأساسي ولا قصر لها على «عتبة المدرسة فذلك من ملاعب الذراري «ولا هي مما كان يجب الرجوع فيها إلى أي كان ولو كانت رئاسة الجمهورية» ولا «سكوت» عن الإجبارية» ولا «إسقاط» لها فضلا عن التضحية بها.وإنما هي اختلافات في الصيغ الشكلية ما كان للوزارة –ومعاركها كثيرة-أن لا تستجيب لبعضها بل كان عليها أن تتغاضى عن مزايدات لا خير فيها. 3) المجانية جاء بالفصل الثاني من الباب الثاني بعنوان «التعليمين الأساسي والثانوي» من المشروع ما يلي : تضمن الدولة مجانا لكل الذين هم في سن الدراسة الحق في التكوين المدرسي وتوفر لجميع التلاميذ أكثر ما يمكن من الفرص المتكافئة للتمتع بذلك الحق ما دامت الدراسة متواصلة بصورة طبيعية حسب التراتيب الجاري بها العمل. ويمكن مطالبة الأولياء الذين يتعدى دخلهم حدا أدنى يضبط مقداره بأمر بالمساهمة في المصاريف التي تستلزمها صيانة المؤسسة التربوية وتجهيزها والعناية بمكتبتها وذلك حسب إجراءات تضبط بأمر. وجاء بالباب نفسه وبالفصل الرابع منه من القانون ما يلي: «تضمن الدولة مجانا لكل الذين هم... إلى قوله الجاري بها العمل». واقترح المجلس حذف الفقرة الثانية من نص المشروع (ويمكن مطالبة الاولياء الخ...) لما يمكن أن تفتحه من تأويلات قد تمس بمبدإ المجانية بل أضاف البعض بوجاهة ما يلي «وتسهر (الدولة) قدر الإمكان على توفير الظروف الملائمة لتمكين المعوقين والمتخلفين في الدراسة من الحق في التكوين المدرسي». وقد قبلت الوزارة المقترحين دون تردد...وفرق بين الخوف من ضياع شيء وبين ضياعه أو التضحية به. اما اللجنة البرلمانية فقد وقفت مشكورة عند اقتراح إعادة صياغة الفقرة الثانية من الفصل أعلاه كما يلي : «ويمكن أن يساهم الأولياء والجماعات العمومية والمحلية والمؤسسات الاقتصادية في المصاريف التي تستلزمها صيانة المؤسسات التربوية والعناية بمكتباتها وذلك عن طريق بعث جمعيات بكل مؤسسة تربوية طبقا لقانون الجمعيات تضبط مشمولاتها وطرق تمويلها بأمر.» (ص 2285 من العدد 37) 1991 أي ان اللجنة الموقرة لم تعارض مقترح الوزارة بل دعمته... ولنضف الى ما أسلفنا ما جاء متعلقا تعلقا غير مباشر بالمجانية وذلك بالفصل 21 من الباب الثاني ذاته بالمشروع حيث نقرأ ما يلي: «تبني الدولة مؤسسات التعليم العمومي وتنفق عليها من الميزانية العامة آو من الهبات والوصايا كما يمكن أن يساهم في ذلك الجماعات العمومية الجهوية والمحلية وفق التشريع الجاري به العمل» وقد بقي الأمر على حاله بالفصل 23 من القانون مع إضافة وجيهة من المجلس تتصل بجماليات المؤسسات التربوية.. وهكذا يتبين لنا ما يلي: 1) أن ليس في ما سلف من المعطيات النصية البينة ما يمكن اعتباره دورا دفاعيا قد تكون اضطلعت به اللجنة البرلمانية المختصة لانقاذ مبادئ كان يمكن أن تندثر لولا وقفة حازمة من زيد أو عمر... ومتى كان البرلمان أو اللجان البرلمانية منذ الاستقلال تستطيع قول لا أو المبادرة باقتراح قانون مضاد لما تفرضه الحكومة؟... 2) وليس في ما سلف ما يمكن اعتباره «تعمدا واضحا للسكوت» عن أي شيء كان «كما جاء في الدراسة موضوع النظر او(من باب أولى وأحرى) تضحية بالأركان الثلاثة 'الهوية والاجبارية والمجانية» التي انبنى عليها المشروع الحكومي الذي صاغته وزارة الشرفي سواء حين نقارنه بقانون إصلاح 1991 أو بقانون إصلاح 1958. تلك هي المعطيات النصية التي يمكن لأي كان أن يطلع عليها وأرشيف مؤسسات الدولة جعل لهذا. وفي القليل البين ما يغني الكثير عن المتشابه، وفي القراءة المنطقية المتبصرة ما يغني عن التذاكي التأويلي. ومع ذلك فالتساؤل يبقى مشروعا وتعميق النظر واجبا يتعنى له أولو النظر كما تفضل الدارس الكريم... فما هي من هذا المنطلق وجوه الخلاف تدقيقا بين مضامين المشروع ومقترحات اللجنة البرلمانية من ناحية والقانون النهائي من ناحية أخرى؟ هي خلافات تتصل بمسائل شكلية صرف يمكن التذكير ببعضها: أ) الفصل الأول من المشروع كان منقسما إلى فقرات متتالية مثل ما هو الشأن في القانون لكن دون ترقيم.فأضيف الترقيم باقتراح من اللجنة.. ب) ثم إن هذا الفصل قدمته الوزارة بصفة «ديباجة» للقانون (ص 2287) وهو ما تم الاعتراض عليه باعتبار أن دستور الدولة هو النص التشريعي الوحيد الذي يقدم له «بديباجة» وبالتالي فلا معنى أصلا للقول «إن هذه الديباجة كانت جديدة وإنها من اقتراح اللجنة الخ..» فذلك تخمين أهله في ضلال بعيد.. ج) مقترح متعلق بالمباعدة بين الفصل الخاص بالمجانية والفصل الخاص بإمكان مساهمة الأولياء في مجهود صيانة المؤسسة التربوية وإنشاء مكتباتها أو اغناء أرصدتها الخ (ص 2285 وص2287). وليفهم هذا الحوار لابد من إدراجه في وضعه التاريخي يوم كانت المدارس تحرق والمكتبات تنهب والتجهيزات تتلف والبلور يتهشم والأبواب والنوافذ تكسر.. مما يكلف الوزارة مئات الملايين سنويا، ومما أفضى بالمؤسسات التربوية إلى أوضاع مادية وأدبية لا تحسد عليها. وما كان لأي إصلاح أن يكتسب بعض المصداقية ما لم تستعد المدرسة بعض نضارتها وما لم تسلم تجهيزاتها... وما كان لذلك أن يكون دون مساهمة المجتمع المدني في ذلك الجهد الضروري أو التكميلي أو التجميلي...ولمزيد تعميق النظر في هذه المسألة يمكن للباحث عن الحقيقة وحدها أن يستأنس بالمنشور الذي أصدره الأستاذ الشرفي رحمه الله بتاريخ 14اكتوبر 1992تحت عدد 97/92 المتعلق بإحداث جمعيات العمل التنموي بالمؤسسات التربوية.ولا أخفي أني تحمست كثيرا لذلك الإجراء لما كنت أتوقعه منه من بعض النفع على المدارس عامة والمدارس الريفية خاصة تلك التي لها في نفسي مكانة من نوع خاص بحكم حب قديم أحمله لها بين ضلوعي. وقد كانت محرومة من كل شيء تقريبا..فإذا تحطم بلور نافذة أو احترق مصباح كهربائي.. كان على المدير المسكين أن يراسل الإدارة الجهوية لإعلامها بالامر وأن ينتظر الأشهر الطويلة قبل ان يؤذن له في إصلاح ما فسد أو أن يقتطع مصاريف الإصلاح من قوت أبنائه...حتى ثمن الطباشير في كثير من الأحيان... فافهمه يا سيدي القارئ. د) ما سمي «بالتضييقات» على مبدإ الاجبارية، يتعلق بجملة تردد ت في مشروع القانون وفي القانون نفسه وهي «ما دامت الدراسة مستمرة بصورة طبيعية حسب التراتيب الجاري بها العمل». وقد سعى البعض إلى حذفها ولكن الوزارة رفضت... وفي ذلك الرفض اختيار تربوي مناهض لمبدإ النجاح الآلي وفيه تأكيد لواجب الاجتهاد في تحصيل العلم مع توفير الظروف الملائمة له حتى تسلم المدرسة من الشعبوية وهو مع الأسف ما آل إليه الأمر لاحقا.فالمدرسة التونسية تستهلك أكثر من 7 في المائة من الدخل الوطني الخام، وهي أكبر نسبة في العالم، علما أن المعدل العالمي لا يتجاوز 5 في المائة، ولكن مردودها ارتد مع مرور السنين تقريبا إلى أقل المردودية العالمية...وما يزيد في حسرة كل ذي نفس وطني أن ذلك الإصلاح اتخذته اليونسكو سنة 1995 على ما اذكر نظاما تربويا أنموذجيا ومنحت الشرفي سنة 1996 أي بعد حوالي سنتين من خروجه من الوزارة الميدالية التربوية العالمية... وأذكر جيدا أني ساهمت في جميع المفاوضات مع البنك العالمي للحصول على قروض نستعين بها على انجاز الإصلاح في التعليم الثانوي والتعليم العالي.. ولطالما ألح الخبراء على إبداء الرأي في كيفية تحسين مردودية المدرسة «الداخلية والخارجية» ولم نتحرك قيد أنملة في ما يتعلق بمسألة قدرنا أنها من المسائل السيادية، ورفضنا كل مقترح يدور على معنى النجاح الآلي أو التسيب في التقييم يسميه المتفيقهون «مرونة». ويقيني أنه لا سبيل إلى التقدم الحق إلا بالعمل الفعلي الجاد وانه لا خير في جحافل حاملي الشهائد المزيقة أو شبه المزيفة' إذا لم نحسن تكوينهم ونعد لهم أسباب كسب الرزق بعرق الجبين...أيريد القارئ الكريم أن «أسر» إليه بما يعرفه الجميع وهو أن احد وزراء التربية(سامحه الله) وقف ذات يوم خطيبا في جماهير غفيرة ليعلن ما لم يكن يجرؤ عليه مسؤول' أن حوالي 550 ألفا من التلاميذ يجتازون هذه السنة مختلف الامتحانات وأن المطلوب تحقيق اكبر نسبة من النجاح حتى يزداد الشباب تعلقا بالرئيس... ألم تكن مطالبة وزارة الشرفي يومئذ برفع ما سمي «بالتضييقات» على الانتساب إلى المدرسة شكلا من أشكال تهيئة الظروف الموضوعية لوأد المدرسة'عن وعي او عن غير وعي...؟ ومع ذلك فالحق انه ليس أضر على الأمم من ادعاء أن ليس في الإمكان أبدع مما كان .وفي هذا الأفق العام ينبغي ان يندرج إصلاح الشرفي الذي لم يدع المثالية يوما. وقيمته الأولى تكمن في تخليص المدرسة التونسية من الكثير مما تورطت فيه لاسيما في سنوات الجمر من الثمانينات من سلبيات في مناهج التدريس وفي محتوى الدرس وفي المثل العامة التى ينبغي ان توجه الفعل التربوي: بناء الإنسان وتربية المواطن وتكوين القوة المنتجة. وإذا قدرنا الأمر على ذلك النحو ما كان لأحد أن يدعي أن الشرفي وجد قبله مشروع إصلاح... والصحيح الصحيح أن ما ورد بالصفحة 215من كتابه «معركتي في سبيل الانوار» يتصل كما أشرت إلى ذلك في مداخلتي الأولى بما سمي وقتها بالمدرسة الأساسية وهو واضح من اللفظ والمعنى بحيث لا يترك مجالا للخلط أو التأويل.. وكنت قلت إن الوزارة خيرت أن تشرع في ارساء التعليم الأساسي سنة فسنة بدل الأخذ فيها على امتداد ثلاث سنوات دفعة واحدة.واذكر جيدا أن الزملاء في اللجان القطاعية وهم من خيرة ما أنتجت تونس في جميع الاختصاصات، ومن أشدهم تحمسا لإنجاح الإصلاح- عملوا دون أي مقابل مالي ليلا نهارا لتأمين عودة مدرسة عادية في أكتوبر 1989وما بعدها...وكان الأمريكون محالا لو غامرت الوزارة بالشروع في إرساء التعليم الأساسي على امتداد السنوات الثلاث الأولى دفعة واحدة...