في جانفي 1978 كانت صفاقس قد قررت الإضراب العام ليومين : 26 جانفي مع بقية جهات الجمهورية وقبل ذلك بيوم أي 25 جانفي احتجاجا على اعتقال الكاتب العام للاتحاد الجهوي للشغل آنذاك. وقمنا كنقابة إذاعة صفاقس بتشغيل «اذاعة داخلية» من مكتب داخل مقر الاتحاد بثثنا عبرها الأناشيد الثورية وعديد البيانات التي رأيناها مناسبة (وهو ما جعل البعض منا ينال عقوبة إضافية بالحبس بسبب «استغلاله لمهنته» أو هكذا قيل)..تداول على المصدح كثيرون.. أحدهم /وكان أشدنا فطنة حيث لم يعرّف بنفسه وافلت بذلك من العقاب ألقى قصيدتين من الشعر الشعبي.. إحداهما كان طالعها (إذا العامل يحفى ويدبر) والثانية كان عنوانها و«قفلتها» (ناري عليك يا خضراء)...اختفى الرجل فورا وليته يظهر الآن.. ومضى ثلث قرن لكن عبارة (ناري عليك يا خضراء) لم تمح من ذاكرتي وطالما رددتها في أكثر من مناسبة...رددتها مرات ومرات على مدى عشر سنوات وفي مناسبات سوف يأتي أوان الحديث عنها..ثم كانت العبارة على لساني عشية 7 نوفمبر87 عندما تذكرت ما كتبت صحيفة لوموند الفرنسية نقلا عن تسريبات نشرتها نيويورك تايمز قبل ذلك بأعوام من أن بن علي عميل لوكالة المخابرات الأمريكية ...ولم تغب (ناري عليك يا خضراء) وبن علي يقترن بليلى الطرابلسي وتنطلق وعائلتها تجوب الخضراء طولا وعرضا تملي إرادتها وتنهب خيراتها وتنسج من حولها عصابات مافيا حقيقية في كل مدينة وقرية مازال ازلامها يسرحون ويمرحون وقد انشغل عنهم الناس بين اعتصامات لذوي «الحاجات» وتناحر من يريد أن يخلف المخلوع في الهيمنة على مقدرات الشعب التونسي.. (ناري عليك يا خضراء) كانت التنهيدة التي ترجمت عجز المشيب والركون العاجز إلى «أضعف الإيمان» في مواجهة المنكر وقد غدا سيرة في الوطن ..عندما حرق مواطن نفسه في المنستير وآخر في قرقنة ...في انتفاضة الحوض المنجمي وما واكبها من قمع ... وانتصرت الثورة وفر بن علي ...لكن العبارة لم تختف بل ازدادت إلحاحا ...لم يستشهد احد باسم الأحزاب في الثورة ومع ذلك جدد بعض الحزبيين الزعم أنهم كانوا وراء هذه الثورة وكانوا قد قالوا ذلك غداة 7 نوفمبر87 ..سياسيون هاجروا طوعا أو هجّروا قسرا سارعوا إلى الإعلان عن توقهم لسكنى قصر قرطاج وهو لم يكنس بعد من موبقاته ..رموز «ناضلوا» أو ادعوا النضال تحولوا بين عشية وضحاها من مثمّنين لسياسات «التحول المبارك» ومناشدين ل«قائد التغيير» الترشح عام 2014 إلى «حماة» للثورة مدافعين عن «إرادة الشعب»...شباب انتقلوا من مراكز الحراسات والحماية الشعبية في النصف الثاني من جانفي إلى قاطعي طرقات ومخربين بعنوان «القطع» مع الماضي...إعلاميون استبدلوا كتابة التقارير لسدنة القصر ب«تحليلات لا تنتهي للثورة وكيف يجب أن تكون وللدولة وأي طريق تسلك ...مجموعات من كل حدب وصوب تحولت أنظارهم إلى تكوين أحزاب علّهم يحضون من المناصب المقبلة بنصيب...عمّال كادحون وفيهم مظلومون أصبحوا مقتنعين بأنهم أمام خيارين لا ثالث لهما إما أن ينالوا ما يطلبون فورا أو فلتنسف المؤسسات وليذهب الأعراف تونسيون وأجانب إلى الجحيم ...موظفون كانوا جزءا من نسيج الفساد الطرابلسي رفعوا عقيرتهم بالشعارات الثورية وأصبحوا ينامون على اعتصام ويصحون على ترحيل مسؤول..لجان وطنية تشكلت لمهام محدّدة وبمواصفات معيّنة أصبح الجميع يطالبون أن يكونوا أعضاء فيها واذا ما اتخذ قرار فإنهم يدينونه لأنهم «لم تقع استشارتهم»..كل من طمع في الإقناع استخدم تهمة «غير شرعي»...الرئيس غير شرعي... والحكومة غير شرعية ..واللجان غير شرعية والوزارة غير شرعية.. ونسي الجميع أن لا احد يملك لحد الآن أية شرعية اذا ما كانت الشرعية هي كمية أصوات يجهد الكل في جمع المال وحشد الرجال لكسبها أو استمالتها أو شرائها بل إن بعضهم لم يتردد في القول انه سيكسب هذه الأصوات وسيملك السلطة «إن سلما فسلما وان...»..مستثمرون أجانب غادروا الخضراء وسواح هجروها..مؤسسات اغلقت ..اقتصاد شلّ ...إرهابيون دخلوا تونس وقتلوا ونجد من يشكك في ذلك ويتهم الأمن والحكومة بصفة غير مباشرة بأن القضية مفتعلة وراءها أهداف سياسية(هكذا؟) ..اللجنة المستقلة للانتخابات التي لا يشك احد في نزاهة رئيسها وأعضائها قدمت الأدلة التي لا تقبل الدحض بان موعد 24 جويلية مستحيل التحقيق فاذا بعض الذين لايخدمهم التأخير يرفعون عقيرتهم بالاحتجاج والغريب انهم يتعللون بالخوف من تردي الأمن والشلل الاقتصادي ...هل هو استغفال لنا أم تحريض غير مباشر؟ ما دخل انتخاب مجلس تأسيسي في ضمان الأمن والشغل؟ وهل يتعدى دورالمجلس التأسيسي إعداد دستور؟ وهل يخرجنا من مرحلة الرئيس المؤقت والحكومة المؤقتة والمجلس المؤقت؟ وهل يملك المجلس المنتظر تحقيق كل الرغبات والطلبات؟ وهل توقفت شعوبنا عن الانتاج وانخرم فيها الامن حتى وهي تخوض الحرب أو تواجه العدوان، وفلسطين أمامنا حاضرة وفيتنام من قبلها ومن قبلهما المانيا واليابان وغيرهما في الحرب العالمية؟ أسقطنا النظام الفاسد ولم نعد نفرّق بين تدمير الفساد واجتثاث أسبابه وبين تدمير الدولة برمتها وكأننا نسير على خطى الأمريكي (بريمر) في تدمير العراق او على خطى الكمبودي (بول بوت) الذي ارتأى انه لا قيام للدولة التي يريد الا بإبادة شاملة لكل من تجاوز الفطام عندما استولى هو على السلطة فدمر كمبوديا ودمر نظامه وانتهى وحيدا مطاردا. ناري عليك يا خضراء ...سأظل ارددها طالما بقي حزب يخطط لمستقبله لا لمستقبل هذه الخضراء ..سأظل ارددها طالما انصرف التونسي عن الانتاج وتنمية خيرات وطنه حتى ينتهي الفقر والجهل ...سأظل ارددها طالما نسي التونسي ان هذه الأرض أمانة في عنق الجميع يصونها مثلما ثار من اجلها ..سأظل ارددها حتى تقطع حبال الصمت ويخرج كل غيور ليضع حدا لهذا الذي يجري وتعود الخضراء يانعة كريمة تعتز بنا ونعتز بالانتماء إليها.