يوم الاثنين الخامس من جوان 1967 لم يكن كغيره من الايام ولا الاحداث فيه كغيرها من الاحداث.. اربع واربعون سنة مرت الآن أي ان من شارف الخمسين من العمر لم يعرفها الا من خلال الدرس او عبر وسائل الاعلام.. فجر ذلك اليوم صحونا على اذاعات الشرق تطلق الاناشيد الوطنية وتذيع البيانات العسكرية تخبرنا بعشرات الطائرات الصهيونية تهوي محترقة بطياريها ومئات الدبابات تنسف في غمضة عين.. كنا معبئين لسنوات بخبر يقين هو ان هؤلاء الصهاينة الملاعين الذين اغتصبوا منا فلسطين ستلقي بهم جيوش حكامنا الى البحر الذي عبروه لأرضنا.. خرجنا الى الشوارع اذ لم تكن لدينا جوالات ولا «فايس بوكات» نتبادل التهاني والقبلات فالنصر الموعود آت.. رفضنا ان نستمع الى اذاعات العالم الاخرى التي تحدثنا عن غير ذلك ف«الحقيقة» كل الحقيقة في اذاعة «صوت العرب» المصرية وما عداها مؤامرات صهيونية امبريالية.. الى ان كان اليوم الثالث.. اذاعاتنا «اعترفت» بان قواتنا الباسلة انسحبت الى الخط الثاني في سيناء المصرية الى منطقة الممرات.. توقفت انفاسنا ف«إعادة الانتشار» تعني التقهقر والعودة الى الوراء تعني اننا لا ننتصر..وتتالت الاحداث بسرعة واوجاع لم نكن مهيئين لها بل كنا موقنين بالفرح.. تبين اننا كنا نلهث وراء سراب بقيعة نحسبه ماء حتى اذا ما جئناه لم نجده شيئا .وكانت استقالة عبد الناصر وخروج الملايين الى الشوارع تهتف لبقائه مطلقة صرخة (حنحارب).. مكلومين كنا.. مطعونين في سويداء القلب.. فانهارت من الاعصاب وتدفقت الدموع من الموق المقروحة.. كانت اياما وليالي حالكات.. ومضت السنون بعجافها وسمانها وتكشفت وثائق وتأكدت حقائق. لم تكن الحركة الصهيونية وهي تخطط لاغتصاب فلسطيننا لتقنع منها بالنصف الذي حصلت عليه بالتقسيم.. ولم تكن لتقنع بان تقوم لها «دولة» على ارضنا ففي وثائقها وادبياتها واهمها (بروتوكولات حكماء صهيون) ان يهود يجب ان يتوصلوا خلال قرن (البروتوكولات اعدت في نهاية القرن التاسع عشر) الى السيطرة وبكل الوسائل على ذهب العالم واعلامه ومن ثم على القرارالسياسي في عواصمه الكبرى ايا كانت شرقية او غربية.. وقد حصل فعلا بعد قرن.. وان على يهود ان «يعودوا» الى «يهودا والسامرة» (أي فلسطين) كامل فلسطين ويعيدوا بناء الهيكل بازالة الاقصى الشريف وهم على الطريق بل قريبا من نقطة الوصول.. اغتصبوا النصف من فلسطين عام 1948 وبعد ذلك بثمانية اعوام احتلوا قطاع غزةوسيناء المصرية في العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 ولم ينسحبوا منه الا مجبرين بقرار من الاممالمتحدة كان من ترتيباته نشر قوة فصل «اممية» على الحدود المصرية الفلسطينية .انسحبوا الى حين لكنهم لم ينسوا الهدف ولا البروتوكولات وظلوا يعدون العدة.. اما نحن كعرب فقد ظل حكامنا واحزابنا يتناحرون بل يتقاتلون من اجل العروش والكروش وتحت شعارات تحرير فلسطين وتحقيق الوحدة ونشر العدل الاشتراكي.. وكجماهير عبدنا الاصنام ووثقنا في بركاتها وسرنا كالاغنام وراء ابواق ل«الاعلام القومي» أو «الارشاد القومي» ايضا.. هلّلنا لطوابير دبابات حكامنا تجوب شوارعنا للاستعراض تحت نظارات جنرالات أثقلت صدورهم النياشين.. وصفقنا ل«قرارات قومية» هي الاخرى وقعها حكامنا تحت سقف جامعتهم العربية تؤكد وحدة الجيوش والهدف والمصير وتقسم بان تقصم ظهر كل معتد على اية ارض عربية وان الارض «تتكلم عربي».. وكان الصهاينة يهيؤون لجولة جديدة.. ناوشوا في بداية الستينيات سوريا وكانت عيونهم على مصر وعلى عبد الناصر الذي بدا يحرك الشارع العربي محاولا فتح طريق لعودة مجد الامة.. وابتلع ناصر الطعم.. حرك قواته في سيناء بعدما ابلغه الروس ان «اسرائيل» تستعد لضرب سوريا.. وطلب من قوات الفصل الاممية الانسحاب فاستجابت بسرعة البرق بعد يومين (بل ان عبد الناصر نفسه أكد انه لم يطلب هذا الانسحاب اصلا).. وأغلق مضيق تيران وخليج العقبة امام سفن العدو..وفي فجر الخامس من جوان 1967 وفي ثلاث ساعات فقط دمر الصهاينة جلّ الطائرات الحربية المصرية وهي رابضة في مطاراتها وفي ستة ايام اكملوا احتلال فلسطين ومعها الجولان السورية وسيناء المصرية ووصلوا الى نهر الاردن الذي قال حكامنا انهم سيحرمون المعتدين من روافده. وتوقفت الحرب وسمينا هزيمتنا نكسة اربع واربعون سنة مرت.. وجرى الكثير من مياه انهارنا التي لو تجف ّ او لم تسرق بعد.. وتكشفت من قصور حكامنا مفاسد وموبقات سوّدت هذه الحقبة من تاريخنا.. وطفح الكيل وثارت الجماهير فأطاحت بالفساد ورموزه في اكثر من ساحة.. ولكن وعلى ما تسير عليه الاحداث فالخشية ان تعود الحال الى ما كانت عليه.. جماهير تصفق لقنابل يلقيها الاعداء من الحلف الاطلسي على ارض عربية .جماهير تهلل لدماء تسيل بتحريض صهيوني غربي وبمتصهينين يديرون المأساة من لندن وباريس وواشنطن وتل ابيب.. جماهير لم تنجل الغشاوة عن اعينها فسارت وراء اصنام واحزاب بعضها يؤكد على وجوب تحفيف اللحى وحلق الشوارب والعمل لتفادي عذاب القبر،وبعضها يدعو الى قسمة الجوارب بين البدو والحضر، وبعضها يرى النور في عاصمة النور، والمال في بنوك (وول ستريت )، وكلهم بلا استثناء هدفهم العروش وملء الكروش.. عود على بدء.. في القرن الحادي والعشرين كما في القرن العشرين.. واذا ما واصل اهل هذه الارض العربية سباتهم العميق فستسرق منهم ثوراتهم وانتفاضاتهم وارضهم وخيراتهم وحاضرهم ومستقبلهم.. اذا لم يتيقظ اهل هذه الارض العربية فان هذه الارض ستكون لاعدائهم وبايدي أصنامهم.. وسيصحواولادنا يوما على.. نكسة جديدة.