لا يخلو الخطاب السياسي اليوم من تذكير بالتحديات والاقتراحات التي يقترحها هذا الطرف أو ذاك في مسألة الهوية. كما أن تصفحا سريعا لمواقع الجدل الثقافي والفكري بتونس يجعلنا ندرك بطبيعة الحال حجم التنوع الذي تتعاطى به «النخب التونسية» مع إشكاليات الهوية بين تيارات «محافظة» وأخرى «تحررية» وأن كانت مواقع «المحافظة» و«التحررية» نفسها لا تخلو بدورها من تنوع داخلي بين «التشدد» و«الاعتدال» في المحافظة أو «التحرر». ولعلي لا أضيف جديدا حين أقول إن الجدل الدائر اليوم في تونس حول مداخل الإصلاح السياسي الذي يحقق للشعب التونسي طموحاته في إعلاء صرح دولة المواطنة و في تحقيق تنميته الاجتماعية والاقتصادية وسط عالم «التكتلات» الكبرى لا يمكن أن يتم بمعزل عن تجديد التوافقات حول الهوية. إن بناء المشترك «الهوياتي» حاجة ضرورية لتنظيم المجتمع والدولة الحديثة للتخلص من مخاطر العشائرية والفئوية والجهوية وبناء الفرد المنفصل عن هذه الأمراض ليقبل بالارتقاء إلى مرتبة المواطنة ولقد بين «المجموعاتيون الأمريكيون» وعلى رأسهم «تايلور» أن سلامة المجتمع الحديث تقتضي صيغة «هوياتية» تآزرية على عكس ما يذهب إليه الليبرالي الجديد «راولس» من إمكانية بناء الهوية الجديدة على أساس الذات الفردية الحقوقية (4). إن هشاشة «الانتماء» وطغيان «الفردانية» وقيم الاستقالة و فقدان الثقة في «الهوية الوطنية بحكم سياسات التهميش» و«الاغتراب الثقافي» تعطل طاقات المجتمع وتدعم ثقافة «الانسحاب والحرقان الهوياتي» للبحث خارج المجموعة عن ملاذات الانتماء الزائف ولا فرق أن تكون هذه الملاذات في «فرقة دينية» أو رياضية أو في جنة موعودة وراء البحار. إن كل مشروع سياسي يهدف إلى تجاوز الاضطراب والخلل في علاقة الدولة بمجتمعها يقتضي بطبيعة الحال الاشتغال على تفعيل قيم المواطنة من حيث هي سياسيا إحساس الفرد بواجب الولاء لدولة تمنحه حقوقه الرمزية والمادية ويشعر فيها ومعها بضرورة وواجب الاندماج وحاجته إلى التواصل مع أشباهه على رقعة محددة من الأرض لتوفير شروط تنمية تحقق لهم الإشباع المادي و الاستقرار المعنوي ولن يتحقق ذلك كله طبعا إلا بتوافق على أرضية ثقافية مشتركة نسميها «الهوية الوطنية». إن علاقة المواطنة بالهوية هي علاقة تبادلية بامتياز فكلما خفت الإحساس بالمواطنة داخل دولة لا تعير لهذه القيمة «الحديثة» اهتماما تراجع التزام الفرد بالهوية الجماعية وارتد إلى البحث عن هويات جزئية قبل وطنية أو «ميتا وطنية» يحتمي داخلها من بطش «جهاز» حكم نزل إلى مرتبة ما «دون الدولة». وبنفس القدرايضا وكلما فشل شعب معين في تثبيت توافقاته على «هوية وطنية» معينة اندلعت الصراعات الاثنية والتوترات الفكرية ومنعته من تحقيق انتقاله الناجز نحو دولة المواطنة الديمقراطية ليرتد إلى «العصبيات التقليدية» أو إلى «التمذهب» الإيديولوجي المتوتر دينيا كان أو وضعيا. من هذه المنطلقات نفهم راهنية السؤال عن الهوية وضرورات الجواب عليه في هذه المرحلة الانتقالية من تاريخ تونس السياسي. وسوف نجازف مرة أخيرة بالقول إن النخبة التونسية قد ظلت في تاريخها البعيد والقريب تجد حلولها حول قلق الهوية في التوافق على ما يعرف من الهوية الوطنية بالضرورة الذي تحدده في أبعاد الوطنية ورافدي العروبة والإسلام وفي روح الانفتاح على القيم الكونية ونزعم أننا لا نرى في هذه الصيغة غمطا لأي من مكونات هذه الهوية في بعدها الأصيل والحداثي المعاصر شرط أن نؤكد على ما يلي : أ/إن حضور عنصري العروبة والإسلام هو إقرار بمعطى تاريخي حاصل لن يمس بقيم الحداثة التي أصبحت مندغمة بجميع مفاصل حياتنا إذا تخلص مفهوم العروبة من شحنته «المغالية» التي تبدو في «القومية « التقليدية المحترزة من كل خصوصية قطرية وإذا أقمنا علاقة مفتوحة وتقدمية مع نظرتنا للإسلام كعقيدة أو حضارة لا تتناقض مع حرية الاعتقاد و حق التنوع والتمايز والاختلاف والتمثيل المتعدد عكس ما يتوهم الخائفون من الرافد الإسلامي للهوية الوطنية . ب/ إن حضور الرافدين المذكورين أعلاه بروح ديناميكية وتقدمية يمكن أن يفيد لا في ضمان وحدة المجتمع التونسي وتجنب هروب شبابنا إلى هويات «فوق وطنية» مزعومة فقط بل أيضا في تفعيل تكاملنا مع فضائنا العربي والإفريقي وحتى الآسيوي في معركة التنمية الاقتصادية والاجتماعية في عصر يتجه فيه الغرب والاتحاد الأوروبي أساسا إلى منطق إقصائي لا يتيح اندماج جواره الجنوبي و لا يقوم على تبادل حقيقي للمصالح. ج/ إن التأكيد على الأبعاد الوطنية والقومية والثقافية للهوية يجعل منها كيانا مركبا ومشروعا مفتوحا لا يلغي أبدا إمكانات الغنى والتطور الخلاق بالاستفادة من القيم الكونية المتطورة من موقع الفعل لا الانفعال. ولكن كل ما سبق ذكره لن يتحقق إلا بخفض التشنج حول مسألة الهوية والعمل على إخراج التوافق على مقوماتها من دائرة الاختلاف السياسي وتغيير أسلوب التخاطب بين مكونات المجتمع وإرساء حوار فكري عميق بين مختلف الأطراف دون خطوط حمراء وبعيدا عن منطق التكفير أو الاتهام بالانبتات أو الرجعية ولن يكون ذلك ممكنا بطبيعة الحال إلا في مجتمع يتحرك بروح التحرر وجاذبية الديمقراطية مما يعيدنا إلى مربع أولوية الإصلاح السياسي وإعادة المعنى للكلمات و القوانين والمواثيق. الهوامش يمكن العودة إلى «الميثاق الوطني» الصادر أوائل التسعينات وقانون الأحزاب كما يمكن العودة الى نصوص ومواثيق عدد كبير من الأحزاب والمجموعات السياسية في تونس الحبيب بوعجيلة.. «في راهنية الهم الثقافي» صحيفة الوحدة تونس 16 نوفمبر2001 وأيضا «تجفيف المنابع أم رعاية الجفاف» صحيفة الموقف 31 اكتوبر 2003 تسريب الرمل من عنوان كتاب الإعلامي التونسي خميس الخياطي انظر د.فتحي التريكي «نحو مقاربة جديدة للهوية» مجلة المسار تونس أكتوبر/ نوفمبر 1999 ٭ الحبيب بوعجيلة (كاتب و ناشط سياسي تونس)