بقلم : صلاح الدين الفضلاوي (وزارة الشؤون الخارجية) كانت أمي رحمها اللّه، من المغرمات المكرهات على تربية الدجاج، مغرمة لأن الدجاج من مكونات محيطها، ومكرهة لمجابهة الظروف الصعبة التي كنا نعيشها، وكان كل ما يثيرني، وأنا الصبي الذي لا يفقه علما لا في الدجاج ولا في السياسة ، تلك الضوضاء والغوغاء بل حتى الفوضى الصباحية وهي رحمها اللّه محاطة بتلك الأعداد من الدجاج والديكة عند «تعليفهم» بطريقة القطرة قطرة، واعتقدت حينها أنها تؤمن للدجاجات قوتهم، وتؤمن لنفسها تأليههم لها وانصياعهم حتى يمكنوها من إنتاجية عالية في البض أو في اللحم عند الاقتضاء، ولم أر يوما من نفش ريشه أمامها إلا بعد أن تنتهي حصة توزيع العلف وتنتفخ البطون بحبات قمح أو شعير، حينها تفترق «الحضبة الدجاجية» ويعلو صياح الديكة صوت مذياع بيتنا، رجعت إلى ذاكرتي هذه الصورة وأنا أتابع بكل فضول ودون انتماء إلا إلى هذا الوطن الغالي، ما يعلو من ضجيج سياسي مصدره الأحزاب السياسية، هذه الأحزاب التي طفت إلى سطح الوجود بعد ثورة إلهية شعبية كريمة ولدت من رحم غير المسيسين أصلا، وهبت علينا الشعارات من كل الاتجاهات، مثلما هبّ علينا «ناموس» هذه السنة يمينا، ويسارا، ووسطا، وحاصرونا بمواقف لم نفقه جلها، اليوم أحزاب بالعشرات وخطب بالمئات ومنخرطون «بعباية حافلات» قد تكون « زينة وعزيزة» أو«منفردة» لكل وجهته، هذا يتهم الآخر بمحاولة جلب المثال التركي ، والآخر ينادي بالموديل الفنلندي والآخر الهولندي، والآخر الأيرلندي ، وآخر البولندي ولم تسلم منهم حتى التشيلي والمكسيك، حتى الموتى نبشوا قبورهم من لينين إلى ما وتسي تونغ، الكل يهون من أجل شعار يصلح للدخلة الحزبية بعدما منعت جامعة الكرة جمهور الملاعب من إنجاز دخلة الدربيات، عندما كنا نشاهد صور المناضل التاريخي «شي قيفارا» على لافتات عملاقة، رمزا للنصر، اليوم لست مجبرا على حضور كل منابر الأحزاب، فكلمات الحرية والديمقراطية والتقسيم العادل للثروات، وأحقية الجهات بتنمية متوازنة وصيانة المد الثوري، ومقاومة الملتفين على الثورة، وحق المواطن في القرار الوطني، والمساواة بين الرجل والمرأة ، والوعود بغد ربيعي مشمس إن أردت ومقمرا إن اشتهيت وممطرا إن تمنيت، إلى غير ذلك مما احتوته قواميس الكلام ولغة الضاد، أو حتى لغة «فولتير» المعربة، قلت إنك لست مجبرا لحضور منابر أحزابنا كلهم، فهم متفقون على الأقل في استعمال قاموس واحد منه ينهلون شعاراتهم، أما إذا تجرأت وسألت عن برامجهم فعليك الانتظار قليلا، ربما حتى يضمنوا مكانا بالمجلس التأسيسي، أو ربما حتى تنتهي لجانهم الفنية من صياغته، أو ربما...وإذا سألت عن خرائطهم الجيو اجتماعية أو الجيو اقتصادية أو غيرها فعليك بركوب حافلة المنخرطين وانتظار محطة 23 أكتوبر. أحزابنا نأت بنفسها عن المرحلة الانتقالية وتركت أمرها للحكومة المؤقتة ولكن عند أي قرار تنتقدها، فلا الإضرابات العشوائية تعنيها، ولا الاعتصامات المتكررة والمعطلة للعجلة الاقتصادية تهمها، أحزابنا لا تريد مواقف قد تقصيها عن شريحة معينة من الناخبين، أو قل لا تريد صداما فكريا مع أحد، إن سألت أحدهم عن الإسلام وهو اليساري فيجيبك بأن الشعب مسلم بطبيعته، وإن سألت الآخر عن فصل الدولة عن الدين فيجيبك بأن الشعب لا يحكم إلا بالوسطية عموما وإلى هذه اللحظة المسار واضح، والغاية تبرر الوسيلة، ولكل امرئ ما نوى، وكل حزب قادر على حل أي مشكلة أو إشكال، ولا تخف، انتخبني ومآلك الجنة في الدنيا ، فالربيع لن يأتي إلا بعد المجلس التأسيسي، ومن أنذر فقد أعذر، أما إذا تجرأت وسألت عمن سيحمل سفينة الربيع إلى شاطئك، فعليك بأشهر العرافين، والسائل لن يتيه، مادامت ولادة الأحزاب فاقت ولادة الأرانب والتي يقال إنها تلد مع كل شهر قمري، واسأل وزارة الداخلية عن الاحزاب، وإدارة الطب البيطري عن الأرانب. سألني صديقي عن سوداوية مواقفي وأنا غير المسيس وقال بتهكم لماذا لا تفتح حزبا عذرا لماذا لا تؤسس حزبا وسأصوت لك، قلت، لا تصدع بصوتك، فقد يتهمونك بالموالاة او بالمحاباة، أو بالرجعية، او بالردة والارتداد، وقد يعتصموا أمام منزلك، وقد تعلن هيئات نقاباتهم المؤقتة عن اضراب مفتوح. آه، إن القهر يقطع أحشائي من مسلسل هذه الاضرابات المفتوحة، التي يلوحون بها لطرد مسؤول تهمته الجاهزة انه من رموز العهد البائد، وكأن مصالح البلد كانت تدار بمسؤولين من الجن، أو للمناداة بحل مسائل لابد لها من وقت كفيل بحلها، وحادت بعض هذه الهيئات ال Politico-syndical عن المسار النقابي العادي والمتحضر، ولم نلمح حملة وطنية واسعة وشاملة، ومواقف حزبية موحدة منادية بأعلى صوتها ان أوقفوا هذه التحركات الاجتماعية في هذه الفترة بالذات، فترة نزل فيها مؤشر النمو الى أسفل السافلين، وتراجع الموسم السياحي الى أدنى أرقامه، وتراجع المنتوج الوطني، وتفاقمت البطالة، وشلت حركة بعض القطاعات، وصار اقتصادنا مترنحا والحال أن أقسام الاستعجالي غير قادرة على فعل شيء، وكان ردّ بعض محللينا، أن الوضع عادي في ظل الثورة، وكأنهم يحاولون اقناعنا بأن كل الثورات لابد أن تمر بوضع كارثي، وطبعا لم أستطع وللأسف قبول هذا المنطق، والحال أني أؤمن بقدرتنا على تجاوز المرحلة بسلام، لو طرحنا جانبا أنانية أحزابنا واستغلينا التوافق الشعبي بالأغلبية على المؤسسات الانتقالية، ودعمنا منظومة الإنتاج الوطني وتجاوزنا المطلبية، وأرجأنا مشاكلنا الىحين، بثقة في مستقبل بديل لحاضرنا، لأن البلاد قادرة على النجاح فعلا، ولكن بعقلية غير التي نعيشها، وبواقع غير الذي نعيشه، حديث أحزابنا اليوم عن كل شيء في فضاء علم الخطابة، الإ عمّا هو قائم وقاتم،فليس من مشمولاتها وقد آلمني الصحفي سفيان بن حميدة في منبر حضره وزير المالية بقناة نسمة، عندما قال للوزير اتركوا الأحزاب السياسية تعتني بالسياسة، أما الاقتصاد فليس من أولوياتها ونسي ونسي الكثيرون معه أن مهمة التسيير لن تكون الا بأيدي السياسيين النزهاء ولكن باعتماد برامج ومخططات على المدى القريب والبعيد العاجل او الانتقالي، اعتمادا على برامج ومخططات تمس الاقتصاد والتعليم والصحة والبحث العلمي والثقافة والعلاقات الدولية وكل المجالات والاجدر حسب رأيي ان يتحمل كل طرف وزر كل هموم البلد، وان يحمل آمالها وأحلامها، هموم وآمال وأحلام يقدمها الينا اعلام لا ولاء له الا للوطن. لماذا لا تقدم كل الأحزاب برامجها وتوجهاتها بعيدا عن غوغاء القوالب الجاهزة والشعارات الرنانة المصنعة بتقنية «copier-coller»، أرجو أن تعذرني الأحزاب السياسية بل أرجو ان يسامحني وطني والتاريخ، لأني لا أستطيع ان أغير ما نحن فيه، حتى ونحن نعيش حالة توافقية يبدو ان الأحزاب السياسية قابلة لها بفعل الواقع الشعبي لا غير، ليس لي وللكثير منا الا الأماني والدعوات الى الله تعالى بأن نتوحد من اجل النهوض بتونس وجعل هذه الثورة الحرة نبراسا لكل الشعوب التواقة الى غد أفضل، غد