لا حديث في الشارع التونسي وداخل الأسر التونسية هذه الأيام إلا عن الأسعار وارتفاعها الصاروخي المجنون. ولئن جرت العادة أن تشهد أسعار مادة أو بعض المواد بحكم التقاطعات الفصلية ارتفاعا يبقى مفهوما في نهاية المطاف... إلا أن ما يوحّد أسعار الخضر والغلال واللحوم والدواجن والأسماك منذ دخول شهر رمضان المعظّم يتمثل في ارتفاع أسعارها... وفي ممارستها رياضة القفز العالي أمام مقدرة شرائية متعبة من انهيار الدينار ومن تصاعد معدلات التضخّم. لماذا هذا الارتفاع المجنون؟ ولماذا هذه الهجمة على جيب المواطن المخروم بطبعه نتيجة انهزام الرواتب والأجور بالضربة القاضية أمام معدّلات ووتائر ارتفاع الأسعار بصفة عامة؟ تأكيدا لا يمكن تعداد الأسباب ووضع تشخيص شامل للعلل المتسببة في ارتفاع الأسعار في مقال... لأن الأزمة متشعّبة وتضرب تقريبا كل القطاعات وكل المواد بدءا بالخضر والغلال واللحوم والأسماك ووصولا إلى مواد التنظيف وغيرها من المواد المصنعة التي قفزت أسعارها بشكل محيّر. لكن ومع هذا فإن معالجة هذه الآفة التي باتت تشكل صداعا وطنيا لا تتم بالقرارات العشوائية وبالعمليات الاستعراضية وبالشطحات الاعلامية التي سرعان ما يظهر عقمها وعجزها عن احتواء أزمة مستفحلة.. وعن تهدئة أسعار فقدت عقلها وتبقى خاضعة أساسا الى قاعدة العرض والطلب أولا... وإلى مسالك التوزيع ثانيا... وإلى المراقبة ثالثا. والى الضرب على أيادي المحتكرين والوسطاء والمستكرشين رابعا. وتمتد الحلقة في النهاية الى السياسات الفلاحية المنتهجة والتي تعدّ بمثابة المفتاح لأصل القاعدة المحددة للأسعار ممثلة في العرض والطلب. فإذا كان الفلاح في بلادنا وبخاصة الفلاح الصغير وهو يمثل قرابة 90 ٪ من نسيج الفلاحين محتقرا ومغيّبا وغارقا في المديونية ويكتوي بنيران ارتفاع عناصر الانتاج لديه بدءا بالمشاتل ووصولا الى تصريف الصابة وما يكلفه من نزيف يد عاملة وأداءات مرورا بأسعار الأدوية والأسمدة.. واذا كان الفلاح يعاني ويجاهد وحيدا بعيدا عن أعين الدولة واهتمامات الدولة وسياسات الدولة فإننا نكون قد أسسنا لمجتمع الندرة ولا نعتقد أن عاقلا يمكن ان يتوقع هدوء الاسعار في غياب الوفرة. أكثر من هذا إذا كانت الفلاحة كقطاع حيوي واستراتيجي لتحكمها في مفاتيح أمننا الغذائي مهمشة... وإذا كانت لا تنزّل المنزلة التي هي بها جديرة كقاطرة يمكن أن تسحب كل القطاعات وفي طليعتها الصناعات التحويلية الغذائية... ولا تحظى بالأولوية المطلقة من حيث الحوافز والتشجيعات ومن حيث ابداع سياسات مبتكرة تراعي حقائق القطاع الفلاحي من تشتت للملكية ومن عزوف للشباب عن الانخراط الفاعل في هذا القطاع... إذا كان ذلك كذلك فمن أين تأتينا وفرة الانتاج؟ وكيف يمكننا الضغط على الأسعار؟ في حين تعاني كل حلقات الانتاج من تسيّب وارتفاع في التكاليف. إن الفلاحة مجال محكوم بقاعدة الزرع والحصاد، ولنا أن نتصوّر حال من لا يزرع ويمضي وقته بين الاقلام والأوراق وهو يعدّ الصابة الوهمية... ثم يعود ليشتكي من أن حساب البيدر لم يصادف حساب الحقل؟! متى انتبهنا الى هذه المعادلة سوف تهدأ وتنخفض الأسعار... وعبثا سنظل نحاول لأن الأسعار لا تخفّض بقرار وخاصة في وضع عجيب كالذي تعيشه بلادنا!