أوردنا في حلقات سابقة أن مسألة السفارة الى سلطان المغرب الأقصى عرضت في البداية على سيدي صالح الكواش الذي امتنع عنها لكبر سنّه ورشّح لها تلميذه سيدي ابراهيم الرياحي. هذا الترشيح لم يكن وليد صدفة ولا من قبيل المجاملة، بل انه يستند الى خصال عديدة تتوفر في المرشح للسفارة وفي طليعتها سعة علمه وكياسته وذكاؤه وقدراته الفائقة في المجادلة والاقناع التي تجاوزت حدود القطر التونسي وحفرت له مكانة لدى أوساط العلماء والطلاب ورجال الدين والسياسة في بلاد المغرب الاسلامي. وهذه الصفات والخصال هي التي دفعت الباي حمودة باشا لأن يخرق بعض القواعد والأعراف التي دأبت عليها الدولة الحسينية في تعاطيها مع مثل هذه المهمات الدبلوماسية. فقد جرت العادة أن يكون رئيس الوفد المكلّف بالسفارة منتميا إلى العائلة الحسينية مهما كان اسم الشخص الذي يتولى نقل الرسالة. وفي حالة سفارة سيدي ابراهيم فقد انتدبه حمودة باشا للسفارة مرتين الأولى للمغرب والثانية إلى تركيا ويكلفه شخصيا برئاسة الوفد ونقل الرسالة من باب تشريف الشيخ وتبجيله وإكبارا لعلمه ومكانته. وبالفعل فقد تجسّد بعد نظر الباي حمودة باشا عندما كلف سيدي ابراهيم بالسفارة وشرفه برئاستها عند لقائه بسلطان المغرب مولاي سليمان مباشرة بعد نهاية لقائه بسيدي أحمد التيجاني. فقد قوبل بترحاب وتبجيل كبيرين. واستحضر سلطان المغرب كوكبة من خيرة وأجل علماء المغرب ودعاهم لاستقبال الضيف وحضور اللقاء الحميمي معه. وقد اغتنم سيدي ابراهيم الفرصة ليمتدح سلطان المغرب بقصيدة عجيبة جاء فيها بالخصوص. إذ عزّ من خير الأنام مزار ... فلنا بزورة نجله استبشار أو ليس نور المصطفى بجبينه ... كالشمس يظهر نورها الأقمار... ويضيف في موقع آخر: شتان بين ابن الرسول وغيره ... أو يستوي ليل دجى نهار هذا يزيد الشعر طيب مديحه ... حسنا وذاك تزينه الأشعار ويمضي الى أن يقول باسطا حاجته وموضوع سفارته: وهو الذي يسعى اليه اذا دجى ... ليل الخطوب وساءت الأفكار كمجيئنا نسعى اليه وقد سطا ... جدب وعمّ جميعنا أضرار علما بأنا اذ رأينا وجهه ... زال العنا وتزحزح الإعسار ويختم بقوله: ما دمتم يا أهل بيت محمد ... حرصا يطوف ببيته الزوار أو ما ترنم منشد بجلاكم ... وتزينت بجلاكم الأذكار ثم الصلاة على النبي وآله ... ما ناف لي بمديحكم مقدار ما إن فرغ الشيخ من إلقاء قصيدته حتى استبشر السلطان وبانت على محياه ملامح البهجة والرضا. وهو ما حسد وريبة بعض الحضور الذين داخلهم الشك في ان يكون جليسهم هو صاحب القصيدة فأرادوا اختباره بصفة مباشرة. قصة هذا الاختبار وباقي أطوار الرحلة المغربية للشيخ تعرضها في عدد الغد. فإلى حلقة أخرى