فرض القذافي بسرعة سلطته وأسلوبه على الرغم من مزاجيته... كان يرفض الالتزام ببرنامج محدّد بل كان يفعل "عكس كل ما هو متوقع" بحسب تعبير الرئيس اللبناني الأسبق شارل حلو. كان القذافي مؤمنا بالوحدة بين الدول العربية، وكان توجهه القومي هو أساس كل علاقاته الخارجية، منذ ظهوره على الساحة العربية وحتى منتصف السبعينات على الأقل، لكنه لم يكن يحترم إلا عبدالناصر، وأما بقية الحكام العرب، فإنه كان يتعامل معهم باستخفاف واستهزاء و ازدراء. يقول المؤرخ الفرنسي فرانسوا بروش ان العقيد الليبي معمر القذافي كان عدوا للولايات المتحدة و عدوا الغرب لكنه لم يرتم بقوة في أحضان الاتحاد السوفياتي كما فعل آخرون. و يضيف "لم يلعب القذافي قطّ دور حصان طروادة الاتحاد السوفياتي كما هو حال كاسترو في أمريكا الوسطى ولم يكن يهدف إلى تأسيس الشيوعية في بلاده ولا إلى غرس الاتحاد السوفياتي في الشرق الأوسط أو في أفريقيا ولا إلى دعمه للسيطرة عليهما". لقد دعا القذافي الى تحقيق حلم الوحدة العربية فوقَّع بتاريخ 17 فيفري عام 1971 اتفاق بنغازي الذي ينص على تأسيس اتحاد الجمهوريات العربية الذي ضم كلا من مصر وليبيا وسوريا لكن كانت هناك خلافات عميقة على أرض الواقع أعاقت تطبيق هذا المشروع الطموح... فقد ساءت العلاقات مع مصر بعد حرب أكتوبر 1973 وبغض النظر عن حقيقة نوايا حافظ الأسد و القذافي في التوقيع، وإذا كان ذلك قد تم عن اقتناع أو يقين بأهمية تلك الوحدة، إلا أن الثابت أن السادات لم يكن مقتنعًا بهذه الاتفاقية أو أهميتها على الإطلاق. يقول الكاتب المصري الراحل حسنين هيكل أنه كان حينها عائدا مع السادات من ميت أبو الكوم حيث تم توقيع الاتفاق هناك، وكان يناقشه في أمر من أمور الاتفاقية، وكان السادات صامتًا طوال الوقت، وفجأة التفت إليه وقال له: "عايزني أعمل وحدة مع واحد مجنون يا محمد؟! فاجأ معمر ابن عمه قذاف الدم كما فاجأ الرئيس الراحل أنور السادات بطلب خطبة ابنته لابن عمه، فرد السادات "البنت لسّه صغيرة"، ووفق قذاف الدم فقد كان قائد الثورة الليبية يريد زواجا سياسيا يوطد العلاقة بين مصر وليبيا في ظل حالة الشك والخلافات المتكررة مع الرئيس المصري، والميول الوحدوية والقومية للأول لكن جيهان السادات، زوجة الرئيس المصري الراحل اعتبرت خلال حوار على فضائية دريم، أنّ القذافي كان يريده زواجًا سياسيًا يتمكّن من خلاله من تطويع رئيس مصر لصالحه". في الأثناء كان القذافي يتردّد على السادات في منزله الريفي بالمنوفية رغم الخلافات بينهما، وأهداه نخلة زرعها السادات في منزله، وعلمه عمل الشوربة الليبية التي أصبح لها عشق خاص لدى الرئيس المصري، وعندما نشرت الصحف المصرية رسوما كاريكاتورية ساخرة من القذافي، استشاط غضبًا وأرسل برقية للسادات يقول فيها "ليست هذه أخلاق القرية يا سيادة الرئيس". حين جاء موعد حرب أكتوبر عقد القذافي صفقة طائرات الميراج الفرنسية لصالح مصر، واستخرج جوازات سفر ليبية للطيارين المصريين للتدريب عليها في فرنسا، كما نقل الكلية الحربية المصرية بطلابها وأساتذتها ومعداتها إلى منطقة سوسة الليبية حتى تكون فى مأمن أثناء الحرب. في 10 أكتوبر 1973 تلقى السادات برقية من العقيد الليبي معمر القذافى جاء فيها، عتاب ومودة ودعم لمصر في حربها التي بدأتها ضد إسرائيل يوم 6 أكتوبر 1973. جاء في هذه البرقية السرية، التي نشرها كتاب "أكتوبر 73.. السلاح والسياسة" لمحمد حسنين هيكل:" من العقيد القذافي، إلى السيد الرئيس السادات، بعد التحية، في الطريق إليكم الصواريخ الكروتال المطلوبة معها حامية طبرق، ونحاول نقل كتيبة صواريخ سام إلى طبرق لتحل محل الكروتال، أصدرت الأمر بنقل اللواء المدرع بأطقمه إلى مصر فورا، سنحاول تشكيل لواء بدلا منه، قد تحتاج طواقم تدريب قدر الإمكان تحت هذه الظروف، النفط تحت تصرفكم واعتبروه نفطكم، مرسل لكم قوافل من الأدوية قدر المستطاع والمؤن بقدر ما تيسر لنا في السوق والمخازن، المدافع ال mg 400 في الطريق إليكم". ينتقل القذافي في رسالته إلى توضيح كلام ذكره، وغضب السادات منه: "سمعت أنك مستاء من بعض كلامي، أنا قلت حتى لو تغيرت نتيجة القتال في غير صالحنا لا سمح الله، فذلك إذا حصل يرجع لتطور الأسلحة وليس لمعدن الرجال، يكفى أن الجندي الإسرائيلي يفر الآن أمام الجندي المصري، إن هذا الكلام له معان بعيدة خارج مصر، وفيه إطراء لمصر، ولا يمكنني أن أقصد غير ذلك في مثل هذه الظروف"، ثم يعاتب السادات على عدم اهتمامه بالشعب الليبي :"إن شعبنا سيادة الرئيس مستاء هو الآخر من تجاهل دوره السياسي، والإشادة بفيصل "ملك السعودية" في كل نشرة من نشرات القاهرة دون ذكر ليبيا، وليس خافيا ما يجرى الآن في أفريقيا وأوروبا.. آسف سيدى الرئيس لهذه الملحوظة، المهم تصميمنا على القتال ووفقكم الله في مثل هذه الظروف.. معمر القذافي".كان لهذه البرقية وقعها عند السادات لكنها لم تفض الى اخماد "نار" الخلاف بين القذافي الذي كان عمره لا يتجاوز 31 عاما، والرئيس السادات المخضرم في الحروب والثورات والسياسة بل ان هذه الخلافات بلغت ذروتها بعد انتهاء حرب أكتوبر 1973...وستتطوّر الى حرب. فإلى حلقة قادمة