شكّلت مرحلة السبعينات في الذاكرة الليبية عقد الترميم الكامل لمقومات الكيان الليبي الناشئ، فهي المرحلة التي أعقبت صراعات على ليبيا، نمت في حضنها صراعات اجتماعية شكلت الأقاليمُ والقبائلُ الكثير من حيويتها في مجتمع مازال يتلمس مكونات هويته وعلامات مستقبله. وفي قلب هذه الصراعات، كان القذافي يخوض صراعات من نوع آخر...وعلى جبهات أخرى... في الداخل حيث معركة التنمية ومحاولته ترسيخ أركان حكمه... وفي الخارج، حيث كان يريد مواصلة المسيرة على بوصلة عبد الناصر بعد رحيله، فظهرت التنظيمات والتيارات الناصرية والقومية في ليبيا، وكان الاتحادُ الاشتراكي العربي في ليبيا، إطاراً سياسياً ليبياً مستنسخاً عن الاتحاد الاشتراكي العربي في مصر، لكنّ النسخة الليبية بدا جليّا أنها لم تنجح في التحوّل إلى إطار يستوعب كل الهياكل والتنظيمات الناصريّة، بفعل التباينات التي كانت واضحة بين «ناصرية» عبد الناصر، وبين «ناصريّة» القذّافي. أحدث ظهور العديد من التيارات والتنظيمات في ليبيا خلال تلك المرحلة طفرة سياسية تستجيب الى حراك المحيط العربي، بينما على المستوى الاقتصادي شكّلت بداية إنتاج النفط طفرة اجتماعية، تمثلت في ارتفاع نسبي لمستوى الحياة. عند هذا الحدّ، أراد القذّافي أنْ تكون له بصمته الخاصة ودوره السياسي والفكري الذي تحوّل شيئا فشيئا إلى إيديولوجيا وتنظيم. ثم تطوّرت الأفكار وانطلقت الاجتماعات والدراسات لإنتاج وصياغة نظرية سياسية تقوم على صياغة نظام حكم جديد يتجاوز فكرة الانتخاب والديمقراطية السائدة، فذهب إلى الحدّ الأقصى الذي يقول بسلطة الشعب، فكان «الكتاب الأخضر» بفصوله الثلاثة، السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بمثابة «وصفة الخلاص» التي قدمها معمّر القذّافي لليبيا وشعبها. كان «الكتاب الاخضر» العامل الرئيسي في بروز ظاهرة القذافي. وبين دفتي هذا الكتاب بفصوله الثلاثة خطّ القذافي ما سمّاها «النظرية العالمية الثالثة»...وجاء في الفصل الثاني لهذا الكتاب: «لا يحل مشكلة الانتاج المادي فقط بل يرسم طريق الحل الشامل لمشكلات المجتمع الانساني ليتحرر الفرد ماديا ومعنويا تحررا نهائيا لتتحقق سعادته». يصف القذافي الكتاب الاخضر و«نظريته العالمية» قائلا: «ان هذه النظرية ستجعل لنا دينا لان الناس في هذا العصر محتاجة الى دين الى كتاب يوحدها»...كما يقول في مقدمة الطبعة الروسية من الكتاب الأخضر: «أقدم لكم كتابي الأخضر الذي يشبه بشارة عيسى أو ألواح موسى أو خطبة راكب الجمل القصيرة الذي كتبته في داخل خيمتي التي يعرفها العالم بعد أن هجمت عليها 170 طائرة وقصفتها بقصد حرق مسودة كتابي التي هي بخط يدي». كان الثاني من مارس 1977، يوماً لإعلان ولادة «سلطة الشعب» في ليبيا التي تجاوزت الجمهورية والنظام الجمهوري، باتجاه «الجماهيرية»... وهذا النظام مبني على أن سلطة الشعب هي الاساس في الحكم مع عدم وجود رئيس للدولة واعتبر القذافي نفسه «حكيما» للدولة وليس حاكما لها وبات اسم الدولة «الجماهيرية الليبية العربية الشعبية الاشتراكية ثم أضيف الى تلك التسمية لقب «العظمى» بعد الهجوم الأمريكي الجوي على العاصمة طرابلس في عام 1986. يقول القذافي ان السلطة والثروة والسلاح أصبحت بيد الشعب الليبي منذ إعلان قيام «الجماهيرية» و«سلطة الشعب»، في عام1977،حيث المؤتمرات الشعبية تقرر واللجان الشعبية تنفذ، ويؤكد القذافي أنه منذ ذلك التاريخ لم يعد يمتلك أي منصب حكومي، سوى كونه قائداً لثورة الفاتح من سبتمبر، ووفقاً لطروحات الكتاب الأخضر لا يوجد في ليبيا دستور ولا رئيس ولا ملك ولا مجلس وزراء ولا برلمان ولا صحافة مستقلة، ولا منظمات مجتمع مدني، لأن هذه السلطات أصبحت بيد الشعب، ولكن الواقع أن هذه الهياكل كانت واجهة مع انطلاقة ليبيا كجماهيرية، انطلق الجدل حول الأفكار المثيرة للقذافي الذي طرح نفسه مفكراً؛ وهي الأفكار التي كانت عرضة ومحلاً للهجوم ، الذي وصل حدّ اتهام القذافي باستبدال «كتاب الله القرآن الكريم بالكتاب الأخضر». يروي أحد المقربين من القذافي، في هذا السياق، تفاصيل لقاء عاصف بين القذافي ورفيقه الرائد عبد السلام جلوّد، الذي كان الرجل الثاني في النظام الليبي، لمدة عشرة أعوام بعد انقلاب عام1969، أن جلود طلب ذات يوم مقابلة العقيد الليبي، بعد خطاب ألقاه الأخير في مدينة زواره، وأعلن فيه قيام سلطة الشعب وتطبيق النظام الجماهيري، وفقاً لنظرية الكتاب الأخضر، وقال جلوّد للقذافي مثلما ينقل عنه المفكر محمد جاسم فلحي: سوف تغرق البلاد في الفوضى، فالناس لا يفهمون هذه النظرية، اقترح يا سيادة العقيد، أن نقوم بإجراء انتخابات برلمانية ونضع دستوراً جديداً، وليختار الشعب من يريده رئيساً إذا كنت جادّا في نظريتك! صمت القذافي، ثم سأل جلوّد: ولو اختارك الناس بدلاً مني رئيساً، هل تقبل أم ترفض؟! ابتسم جلوّد بمرارة، ونهض ونزع رتبته العسكرية، وألقاها أمام القذافي قائلا: سوف أذهب لرعاية قطيع من الإبل في الصحراء مثل أجدادي، ولن ادخل طرابلس أبدا، لكي أثبت لك أنني لست طامعاً في سلطة أو منصب، ولكن تذكر أننا اقسمنا بكتاب الله على أن نحافظ على بلادنا ونصون كرامة شعبنا، ولن نخون بعضنا». ومنذ تلك اللحظة توارى جلوّد، عن الأنظار تماما بعد أن وضعه العقيد تحت المراقبة، لكنه لم يقتله، ولعله كان من رفاق القذافي القدماء القلائل الذين نجوا من الاغتيال أو الترحيل خارج البلاد! فإلى حلقة قادمة