اختلفت المداخل وتنوعت السبل في تناول مسألة اصلاح المنظومة التربوية، في مجتمع يمر بتحولات متسارعة مثل تونس، بيد أن هذا التعدد لم يفرز الى اليوم نتائج واضحة أو تغيرات نوعية في مجال عمل المؤسسات التربوية وفق أهداف مخططة بطرق عقلانية وقادرة على مواجهة مشاكل تربوية من نوع جديد لم تألفها بلادنا. وهناك جانب هام في تناول الاصلاح التربوي لا يقتصر فقط على اصلاح التعلمات وضبط آليات اشتغال المنظومة التربوية ومجالات العمل البيداغوجية او في تكوين المدرسين وتأطيرهم. الى جانب مواضيع هيكلية أخرى عملت لجان تطوير المنظومة التربوية عليها. إن الجانب الأهم والأكثر حيوية اليوم في توجهات وزارة التربية في تونس، من منطلق وجهة نظر شخصية، ينبغي أن يقوم أساسا على البعد الاجتماعي بما يعني أن عملية التعلم لا تتم فقط في الاقسام المغلقة، في إطار مناهج وضوابط تربوية وبيداغوجية، وانما تمارس من خلال المؤسسات المجتمعية المتنوعة والمتعددة (المؤسسات الصحية ومؤسسات العمل الاجتماعي، والهياكل الثقافية والاعلامية والابداعية). ومن المفروض أن يتحقق الهدف الاجتماعي للمنظومة التربوية، بصورة مباشرة وسريعة، ليتسنى تحقيق بقية الاهداف الاخرى للمدرسة بكل ما يتصل بها من معارف ومهارات وقيم سلوكية وأخلاقية ووجدانية وهذه ليست بالمهمة السهلة. ولقد اقتضت خطة وزارة التربية حاليا في مجال تحقيق جودة التعليم وتحسين مختلف مؤشراته، العودة مجددا الى برنامج المناطق ذات الأولوية التربوية واتخاذ التدابير اللازمة لضمان تكافؤ الفرص بين كافة المتعلمين. وليس المقصود أن يحل برنامج المناطق ذات الأولوية التربوية محل البرامج الاصلاحية الكبرى التي انخرطت فيها وزارة التربية بمعية شركائها ولا سيما الاتحاد العام التونسي للشغل. ولكن المقصود أن تكون استكمالا وتعزيزا لها وذلك بغرض مزيد دفع عملية الاصلاح والسير بها قدما وقد جاء المخطط الاستراتيجي القطاعي للتربية 20162020 ليؤكد أنه من منطلق تكريس مبدأي الانصاف والمساواة تم وضع برنامج خاص للتدخل لفائدة المدارس ذات الأولوية التربوية وتدعيمها بآليات الاحاطة والمرافقة الضرورية من خلايا العمل الاجتماعي ومكاتب الاصغاء والارشاد وفق مقاربة تقوم على الانصاف والمساواة وتأمين تربية جيدة للجميع. وهو ما أدى الى انتشار المدارس ذات الاولوية التربوية ليبلغ عددها الى حدود سنة 2016 حوالي 557 مدرسة ويتمثل هذا التوجه تقنيا ونظريا في العناية بالمؤسسات التربوية التي تسجل نسب انقطاع ورسوب أكثر من المعدل الوطني من خلال تكريس ما يعرف بمبدأ التمييز الايجابي La discrimination positive عبر تقديم الدعم الاضافي للمدارس التي هي في حاجة الى هذا الدعم. تقليص الفوارق التربوية بين الجهات التعليم حق لكل انسان، وهذا يعني انه لا ينبغي استبعاد اي تلميذ مهما كانت درجة ما تعانيه منطقته من فقر ومهما ساءت احوال اسرته. وقد أكدت وزارة التربية أن النهوض بالوضع التربوي ولا سيما في المناطق المهمشة والمفقرة هو مطمح أساسي، في إطار برنامج المناطق ذات الاولوية التربوية. وهو التزام ايجابي يهدف اساسا الى مواصلة التعرف على هذه المناطق والعمل على تمتيع مواطنيها بحقوقهم الاساسية في تعليم جيد ومرافق تربوية لائقة، وما يمكن ان يعكسه ذلك من جودة السياسات والخطط التنموية المطبقة قصد انجاح هذا البرنامج، ولا سيما في مجالات الصحة الاساسية والماء الصالح للشراب والنقل المدرسي والتغذية والنشاط الثقافي والاحاطة النفسية والاجتماعية. ومن المؤكد أن وزارة التربية ستعمل وفق هذا التوجه الاستراتيجي على توحيد المعايير والتنويع الكمي والكيفي للمؤشرات المتفق عليها لتتيح بيانات موثقة ومراجعة علمية، تمكننا من تشخيص أكثر علمية لواقع المناطق ذات الاولوية التربوية، والحقيقة أن وزارة التربية تعمل وفق هذه المعايير العلمية، ويمكن ان تساعد على مزيد إنضاج وتطوير برنامج المؤسسات ذات الاولوية التربوية وما يحيط به من مشاريع اجتماعية. إن السير في هذا المسار العملي في تناول المؤسّسات ذات الأولوية التربوية، كفيل بأن يقدم لنا معلومات وبيانات يمكن الاعتماد عليها عند التدخل واتخاذ القرار وإدارة الأزمات في المنظومة، ثم تقدير النتائج وقياسات مؤشّرات التقدم. ويتواصل الحوار تبعا لذلك حول ما إذا كان برنامج المناطق ذات الأولوية التربوية، هو الأجدر بصرف مزيد من الأموال والبحث عن مجالات أرحب للتمويل دون التفريط في مجانية التعليم أو المساس بالمدرسة العمومية ويدرك القائمون على التعليم في بلادنا اليوم أن تخصيص استثمارات كبيرة وطويلة المدى للمناطق ذات الأولوية التربوية يمكّن من تحقيق مستويات عالية من التنمية الاقتصادية والتنمية البشرية وهذا لا يتم إلا بتدعيم آليات الاحاطة والمرافقة الضرورية وخاصة منها خلايا العمل الاجتماعي في الوسط المدرسي. تطوير العمل الاجتماعي المدرسي إذا رجعنا الى مؤشرات وزارة التربية واحصاءاتها، نجد ان نسب الالتحاق والتمدرس بالمرحلة الابتدائية قد بلغت 99،5 % في السنة الدراسية 2014/2013، كما تطورت نسبة التمدرس الصافية الخاصة بالفئة العمرية 11-6 سنة لتصل الى 99 % سنة 2014 مقابل 97 % سنة 2001/2000. وتمثل الميزانية المرصودة للتعليم الابتدائي ثلث ميزانية وزارة التربية لسنة 2013 منها ما هو مخصص لنفقات التصرف ويقدر ب 94،4 % و٪5 فقط لنفقات التنمية. ان الوزارة ورغم سعيها الى تحسين ظروف الدراسة والترفيع في النفقات بما أدى الى ارتفاع كلفة التلميذ الواحد فإن المدارس تشكو الكثير من النقائص على مستوى البنية التحتية والمرافق والتجهيزات التربوية التي تقادمت واهترأت الى جانب مشاكل التزود بالماء الصالح للشراب والربط بالتيار الكهربائي ومشاكل النقل المدرسي وغيرها من المشاكل وهي عوامل تعمّق بطبيعة الحال الاحساس بالضغط والتوتر لدى المتمدرسين في سن المراهقة، ويسيء الى الصورة الذاتية الايجابية والى مواقفهم الشخصية. إن المبادرة الى تطوير العمل الاجتماعي في الوسط المدرسي، تهدف بالإضافة الى تحقيق المساواة بين المتمدرسين في الرعاية والتنشئة المتوازنة، الى الحدّ من نسب الانقطاع المدرسي والتصدي لظواهر العنف والانتحار ويعتبر العمل الاجتماعي المدرسي، بهذا الشكل، من أبرز قضايا الحياة المدرسية. ونحن جميعا نعلم أهمية الحياة المدرسية وتأثيرها الخطير في بناء المشروع التربوي. وهو رهان كبير تطرحه وزارة التربية، وهي تستعيد النظر بأكثر جدية وعمق في ملف الاصلاح التربوي، بعيدا عن الارتجال وفي هذا المجال من المنتظر ان تحظى الفئات ذات الاحتياجات الخصوصية بعناية خاصة، في إطار برنامج العمل الاجتماعي ومكاتب الاصغاء التي ترعى المتعلمين الذين يلقون صعوبات متنوعة في دراستهم و / أو سلوكهم وتقدم لهم المساندة المناسبة لتجاوزها، طبية أم نفسية أم اجتماعية ام اقتصادية. وربما يتواصل العمل بمبدأ تعميم خلايا العمل الاجتماعي المدرسي تدريجيا على ان تتم تغطية كافة المدارس ذات الأولوية التربوية، الى جانب تغطية المدارس الاعدادية والمعاهد الثانوية التي ترتفع بها مؤشرات الانقطاع المدرسي وسوء التكيف والعنف بأشكاله المختلفة، وتمكّن هذه البرامج من خلق بيئة واقية للتلاميذ ومؤثّرة في مسارهم الدراسي، وهذا لا يرجع فقط الى ضبط خارطة المدارس ذات الأولوية، وتحديد المؤشرات الخاصة بكل دقة، فحسب بل بالعمل أساسا على تحصين هذه المدارس وحمايتها من كافة المخاطر والاختراقات والآفات المتنوعة، التي تهدد رفاه التلاميذ وسلامتهم وتهدد كذلك سلامة المربين وتعيق أداءهم. ولعل من أهم نتائج التحول المجتمعي في بلادنا اليوم، أن يتعامل أصحاب القرار التربوي مع المدرسة، كقيمة ثابتة وليست، منصّة للارتقاء السياسي، وما التعريج على المناطق ذات الأولوية التربوية الا أبرز دليل على النوايا الحسنة التي تقود القائمين على المنظومة حاليا، بما يجعلهم يفكرون بجدية وبرؤية واضحة في مقومات التعامل مع تحديات التفاوت التربوي وعدم كفاية الموارد المادية والبشرية لتقليص هذه الفوارق والاهتمام الأوسع بالمعلمين وتأهيلهم وتدريبهم وتحسين اوضاعهم المادية، لضمان انخراطهم في برنامج المناطق ذات الأولوية التربوية وانجاحه. فنحن في حاجة الى منظومة تربوية جديدة، وفق آليات تشاركية، تعلّم القيم والمبادئ الديمقراطية وتستوعب مستجدات التكنولوجيا والمعرفة الرقمية، دون تمييز بين الجهات والافراد. ويحق لنا أن ننتظر عملا معمّقا تلخّص فيه سمات أشغال المؤسسات التربوية ذات الأولوية، وضبط معايير تقدّر بشكل واقعي تكلفة توفير التعليم الجيد للجميع وفق التوعية نفسها دون استثناء. (*) باحث مختص في علم الاجتماع