جَاءت الصّدمة الشديدة للمنتخب في المُونديال الرّوسي لتؤكد بما لا يَدع مجالا للشك بأنّ الكرة التونسية تَحتاج إلى تدخّلات سريعة وإصلاحات عَميقة خاصّة أنّ الخَيبة الأخيرة في الكأس العالمية كانت تَكملة للعُروض الهَزيلة التي عرفتها بطولتنا المحلية والإخفاقات الجَماعية لسفرائنا في المُسابقات القارية. وفي غَمرة التشنّج الذي رافق الخُروج المُؤلم للفريق الوطني من العُرس العالمي نادى أغلبنا بإسقاط «الرُؤوس الكَبيرة» وضخّ دماء جديدة في مُستهلّ «رحلة الإنقاذ» وهي عَسيرة وقد تتطلّب سنوات طويلة خاصّة أن مشاكلنا كثيرة. ولا جدال طبعا في أن «مَعركة» الإصلاح تفرض عَزل «الجنرالات» الحَاليين المشكورين في كلّ الحالات على مجهوداتهم وإجتهاداتهم حتّى وإن كانت سياساتهم قد تسبّبت في إنحرافات خَطيرة وخَسائر جسيمة. ولا إختلاف في أن كُرتنا ورياضتنا عُموما لم يَعد بِوسعها أن تَطمئن وتأمن في حَضرة مسؤولين مثل وديع الجريء وماجدولين الشارني ومحرز بوصيان وهم أصحاب المَناصب الأرفع وقَادة الهياكل «الأثقل» في السّاحة: جامعة كرة القدم ووزارة الشباب والرياضة واللّجنة الأولمبية. لكنّنا نُخطىء إن أوهمنا أنفسنا بأن قلب الأوضاع رَهن إبعاد «الرؤساء الثلاثة» بحكم أن مشروع الإصلاح أشمل وأعمق بكثير من مجرّد تَغيير الوجوه المَاسكة بالسّلطة. ربّ ضارّة نَافعة كُرة القدم وهي شريان الرياضة التونسية «تُحتضر» منذ فترة ليست بالقصيرة ولا نَحسبها تسترجع عَافيتها بالحلول التّرقيعية والجِراحات التّجميلية ونظنّ أن خروج الفريق الوطني من الباب الخَلفي للكأس العالمية من شأنه أن يُشكّل فرصة مِثالية لإعادة النّظر في «مَنظومتنا» الإحترافية التي وُلدت منذ منتصف التّسعينيات دون أن تُحقّق اللّعبة الشعبية الأولى في البلاد القَفزة النّوعية المأمولة بل أنّ الكثيرين أصبحوا نادمين على زَمن الهِواية لما فيه من لَعب جميل مُقابل إنفاق قليل. وقد تكون المَردودية الصّادمة لعناصرنا الدولية في المُونديال نَافعة لتعرية مُستوانا الحَقيقي بعد أن وقع البعض فَريسة للتّصنيفات المغلوطة والخطابات التّضخيمية من قبيل أن منتخبا في المركز الرابع عشر عالميا وبطولتنا التي يَنخرها الفساد ويُدمّرها العنف تقود الدوريات العربية والإفريقية. الإصلاح يبدأ بالبطولة من المؤكد أنّ بلوغ العالمية يمرّ حتما عبر تطوير المُنافسات المحلية وهذا الأمر ينسحب على الجمعيات والمنتخبات الوطنية التي لا يُمكنها التّخلي عن المنتوج الداخلي رغم الحُضور الكبير ل «المُهاجرين» في التشكيلة التونسية. وتَحتاج بطولتنا إلى إصلاحات عاجلة ولا بدّ أن تشمل هذه التدخّلات النّهوض بالمنشآت «المتآكلة» وتَنقيح التشريعات «البَالية» وحلّ «أزمة» التمويلات ومُراجعة المَناهج على مستوى البرمجة والتكوين وتَغيير الإستراتيجيات على صعيد حُقوق البث التلفزي للمقابلات. ولن يكون بوسعنا أن نَقطع خطوات ثَابتة نحو «نادي المُتحضّرين» بملاعب مُغلقة للصّيانة وأرضيات مَحفورة وبقوانين رياضية غير قادرة على تَتبّع «المُرتشين» ولا تَفسح المجال ل «المُحترفين» لإضفاء صِبغة «ربحية» على أنشطتهم البدنية بطريقة تَزيد في القدرة التنافسية وتُخلّص المسؤولين من «التَسوّل» على عتبات المجمّعات الكيميائية والشّركات البترولية والبلديات والولايات و»الآباء الرُوحيين» والجَامعة والوزارة التي من المفروض أن تَضخّ الأموال العُمومية لفائدة الرياضات الهَاوية والألعاب الفردية والاختصاصات النَسوية. وفي هذه المُساعدات نَصيب معلوم أيضا لذوي الاحتياجات الخاصّة بعد أن أهدوا تونس الذّهب في التظاهرات الدولية دون أن تكون لهم مليارات «الكَوارجية». مُسابقة «مُحترمة» لن نَحلم ببطولة تُشبه «اللّيغا» أو»البُوندسليغا» لكن بوسعنا أن نَبعث مُسابقة «مُحترمة» فنيا وتنظيميا وتَتقيّد فيها جميع الأطراف المَعنية بالرّزنامة المُتّفق عليها ولا تَعبث الجهات الفَاعلة في الجمعيات والمنتخبات بالمواعيد لتُفقد السّباق نَسقه ومِصداقيته نتيجة التقطّعات «العَشوائية» كما حَصل في النّسخ الأخيرة. ونريد بطولة تُحفظ فيها حُقوق النّاس بالقانون ولا «تُسرق» من خلالها أمنيات الجمعيات بمنطق «الغُورة» التي أصبحت السّمة الأبرز في الملاعب التونسية ولا نجاح لكرتنا دون صَافرة تحكيمية نَزيهة تُشرف عليها إدارة مُستقلة مثلها مثل الرّابطات واللّجان القضائية المُكلّفة بفضّ النزاعات الرياضية والمَالية للاعبين والمدربين والجمعيات المُطالبة بتغليب المصلحة العامّة أثناء المُصادقة على القرارات والتشريعات. إدارة فنية فاعلة الكُرة التونسية في حاجة أكيدة إلى إدارة فنية فَاعلة لتتخلّى عن أدوارها السلبية وكِتابة التّقارير الشكلية وتأخذ على عاتقها مسؤولية الرسكلة والتكوين والإرتقاء بمنتخبات الشبان إلى المستوى المنشود ومن الضروري أن تكون الإدارة الفنية الهيكل الأقوى في السّاحة الكُروية بوصفها الجهة المُكلّفة بوضع المُخطّطات المُستقبلية للنهوض باللّعبة في كلّ مَفاصلها وقِطاعاتها. وتُعتبر الإدارة الفنية للجامعة بمثابة القاطرة التي تجرّ خلفها كلّ الجمعيات المُطالبة بالإنخراط عن طَواعية في «مشروع» مُديرها الفني «الأكبر» شرط أن يكون فاعلا وقادرا على التطوير وهو أمر مشكوك فيه في الوقت الراهن مع فائق التقدير للمشرفين الحاليين على هذا الهيكل الذي نُريده أن يراجع أيضا ملف الديبلومات التدريبية التي طغى عليها الجانب الكَمي دون أن نظفر بكفاءات نَوعية (حتّى لا نقول «عَبقرية»). وهذه الحقيقة الدّامغة تؤكدها المَسيرات البَاهتة لمدربينا في البطولة والنتائج المُتواضعة لمنتخباتنا الوطنية في كلّ الأصناف. ومن واجب الإدارة الفنية بالتّنسيق مع الجامعة وسلطة الإشراف توفير كلّ السّبل الضَرورية لتكوين لاعبي النّخبة بالطّرق العلمية فضلا عن مُسايرة التطوّرات العَالمية في ميدان المُتابعة والتَقييم وإنتداب المُختصين حسب الكفاءات لا الولاءات التي ضيّعنا بسببها أكثر من جيل. الخطر الأكبر هُناك خَطر كبير يَتهدّد الكرة التونسية وهو عزوف الجمهور التونسي عن حضور المقابلات حتّى أنّ عدد المُتفرجين في بعض لقاءات المنتخب خارج الديار كان أرفع من عدد الحاضرين مثلا في مباراة إيران في رادس والأمر نفسه ينسحب على مباريات الأندية التونسية التي تقول صباحا مساءً إنّ جماهيرها بالملايين. والحقيقة أن هذه الظاهرة السلبية من شأنها أن تُدمّر الكرة التونسية خاصة أن هذه «الهِجرة» قد تَتزايد في ظل تواصل الحظر على «الصّغار» (أقل من 18 عاما) وإستشراء العنف إلى حدّ القَتل كما حصل مع المرحوم عمر العبيدي الذي كان من المفروض أن تكون حادثة وفاته في محيط رادس نقطة الإنطلاق نحو إصلاح الوضع في ملاعبنا (كما فعلت مثلا أنقلترا بعد أحداث الشغب في نهاية الثمانينات وذلك بالإعتماد على تقرير القَاضي «تايلور»). «ثورة» في العقليات عملية الإصلاح ينبغي أن تبدأ بتغيير «العَقليات» التي نَضعها دون تردّد على رأس الأولويات ليقيننا الرّاسخ بأن «الثورات» تنشأ في الأذهان قبل أن ترى النّور في الميادين. ولاشك في أن من تَابع الفوضى الإتصالية والإنفلاتات السّلوكية في صفوف مُدربي ومسؤولي ولاعبي المنتخب الوطني في المُونديال الرّوسي يُدرك أنّ الكرة التونسية تَقف فعلا على بُعد آلاف السنوات الضوئية من «الإحتراف» الحَقيقي بما يَتضمّنه من أداء قوي وإنضباط كبير وإحترام شديد للخَصم وأيضا للإعلام الذي تطاول عليه حمدي النقاز والفرجاني ساسي على مرأى ومسمع من الجميع. والكَلام عن الإعلام يجعلنا نُؤكد للمرّة الألف بأنه يشكّل السّلطة الرابعة ولن يكون «عجلة خَامسة» كما تُريد بعض الجهات التي تَسعى بكلّ الطّرق ل»تَركيع» الصّحافة الرياضية المُطالبة ب»الصّمود» ولا بأس بوقفة تأملية قصيرة لتساهم في «إعادة الإعمار» بخطابات بنّاءة ومَواقف موضوعية وخَالية من كلّ أشكال التشنّج والتَعصّب للأفكار أوالأشخاص والجمعيات والجهات. وهذه مُصيبة أخرى يُعاني منها للأسف العَديد من الإعلاميين والمراسلين. وخِتاما لا بدّ من إرادة سياسية في عملية البناء خاصّة أن الرياضة شأن يهمّ عامة الشعب إلاّ من كان مُنشغلا بتحصيل «الخُبزة المرّة» وكَارها للكرة التونسية منذ أصبحت على رأي أحدهم «مُربّعة» وغير مُستديرة في إشارة إلى ما لَحقها من «إنحراف».