سبق وأن أشرنا في أعدادنا السابقة الى الأبعاد الرياضية والسياسية والاقتصادية لمونديال جنوب افريقيا لذلك سيكون من الاجحاف تجاهل المغزى الاجتماعي لأكبر تظاهرة رياضية عالمية خاصة أننا نسعى الى مواكبة المونديال بنظرة يحدوها الشمول وهو ما دفعنا الى استجلاء الأبعاد الاجتماعية التي رافقت مونديال جنوب افريقيا سواء المتعلقة منها بالمشاهد التونسي أو كذلك الخاصة بالمنتخبات المشاركة وبعض نجومها وردود أفعال جماهيرها.. «الشروق» حاورت السيد أنيس الهمامي الباحث في علم الاجتماع منذ عام 1986 والمواكب لمشاركة المنتخب الوطني التونسي في كأس القارات بألمانيا عام 2005 والذي سبق له أيضا أن كتب في موضوع الرياضة تحديدا حول الصناعات الرياضية في تونس فأكد ما يلي: سألنا السيد أنيس في بداية الأمر عن أسباب شغف التونسي بمتابعة المونديال وعشقه للمنتخبات التقليدية خاصة البرازيل والأرجنتين فقال: «أصبحت الرياضة جزءا مهما في اهتمامات المجتمع في كافة أنحاء العالم والمشاهد التونسي أعتبره شخصيا متابعا جيدا للأحداث الرياضية عموما وحتى الأحداث الأخرى كالسياسة مثلا فهو يتابع دورات التنس ويشاهد أيضا المونديال خاصة إذا تعلق الأمر بأحداث مسرحها محيطه المتوسطي أو العربي أو الافريقي كما هو الشأن بالنسبة لمونديال جنوب افريقيا.. أما بالنسبة لمسألة عشق المشاهد التونسي للمنتخبات التقليدية فأعتقد أنه يخضع الى ترتيب تفاضلي واضح وجليّ إذ أن المشاهد التونسي يعتبر البرازيل نموذجا مثاليا في كرة القدم لأن ذلك ما ترسّخ في أذهان التونسيين منذ عهد «بيلي» و«جييرزينهو» و«ريفيلينو» والبقية.. فالمشاهد التونسي يميل الى النموذج الأمريكي الجنوبي لأنه يعشق المتعة والحركة البارعة وأفضل مستويات الأداء وتلك التمريرات «المثلثة» التي يطبقها لاعبو أمريكا اللاتينية بطريقة مدهشة فوق الميدان كلها ساهمت في عشق التونسي للبرازيل أولا ولمنتخب الأرجنتين ثانيا علما أن المشاهد التونسي يعتبر الأرجنتين مرجعا تاريخيا متجذرا ليس للأسباب الفرجوية التي ذكرناها فحسب وإنما كذلك بالنظر الى ملحمة 1978 التي سطرها المنتخب الوطني بقيادة الشتالي في الأرجنتين بالذات وهو ما ساهم في تعاطف «تاريخي» مع منتخب الأرجنتين ويشجع التونسي أيضا الألمان بحكم الأداء الراقي الذي ينتهجه منتخب «المانشافت» لأن المشاهد التونسي عادة ما يبحث عن الأشياء الراقية وهو ما قد يدفع ببعض المواطنين التونسيين الى اقتناء شاشات عملاقة «بلازما» لمشاهدة المونديال لأنه يريد الاندماج في الواقع العالمي.. وتأكيدا لبحث التونسي عن المظاهر الراقية نلاحظ شغفه أيضا بالمنتخب الايطالي صاحب الأداء المميز والأنيق في الوقت الذي يشكل فيه اهتمامه بالمنتخب الفرنسي آخر أولوياته بالرغم من العلاقة التاريخية بين البلدين». التونسي يبحث عن المتعة والأداء الراقي ولم يهرب من الواقع وأضاف السيد أنيس قائلا: «حاول بعضهم تصوير متابعة المواطن التونسي للأحداث الرياضية بما في ذلك المونديال على أنه هروب متعمّد للتونسي من مشاكله اليومية وهو اعتقاد مفلس وعار من الصحة فالمواطن التونسي لا يهرب من واقعه اليومي وإنما يبحث عن المتعة والأداء الراقي ويريد أن يكون مواكبا للأحداث فحسب». انتهاء المونديال قد يصيب التونسي بالاحباط لم يخف السيد أنيس أن المشاهد التونسي قد يُصاب بالاحباط بمجرد انتهاء فعاليات مونديال جنوب إفريقيا قائلا: «مؤكد أن المشاهد التونسي سيصطدم بعد المونديال بالواقع المتردي لمستوى الكرة المحلية وهو ما قد ينجرّ عنه حالة من الإحباط بحكم تعوده على مشاهدة الأداء الراقي..». المشاهد التونسي فعل بمارادونا ما فعله مع جورج وسوف بالرغم من بروز عدة نجوم في مونديال جنوب افريقيا إلا أن السيد أنيس يعتقد أن «مارادونا» يبقى الأكثر صيتا وذيوعا قائلا: «أعتقد أن نعت مارادونا بالجنون نقطة تحسب له وليس عليه لأنه جنون خاص جدا انه جنون كروي وإبداعي والمشاهد التونسي يقدم الأداء والكفاءة على الجانب الأخلاقي لذلك يعتبر مارادونا أسطورة حقيقية واستثنائية بالرغم من الأحداث غير الأخلاقية التي رافقت جانبا كبيرا من حياته وأبرز مثال على ذلك أن شعبية الفنان العربي المعروف جورج وسوف ازدادت في صفوف عشاقه في تونس بالرغم من القضية الشهيرة التي رافقت مسيرته والتي كان مدارها المخدرات». التونسي لن يحوّل كرة القدم الى عبادة من الأحداث المؤسفة التي رافقت مونديال جنوب إفريقيا التعصّب الأعمى الذي بلغ بأحد الأمريكيين الى قتل ابنته بسبب مقابلة منتخب بلاده أمام غانا تحدث السيد أنيس فقال: «إنه وعي منحط وهابط فالانسان الأمريكي معروف عنه محدودية الأفق والتعصب والولاء الأعمى والفقر الذهني وثقافة «رعاة البقر» التي تؤدي الى القتل من أجل علبة سجائر أو كأس من النبيذ فهو مجتمع نفعي الى أبعد الحدود وعادة ما تكون تكلفة ما ينفقه على تحقيق أهدافه أكبر من النتائج المنتظرة وهو ما حدث تماما مع المنتخب الأمريكي الذي أنفق عليه المسؤولون أموالا طائلة دون أن يبلغ الهدف المنشود فكان ما كان بعد مقابلة المنتخب الأمريكي أمام غانا.. أما المشاهد التونسي فلا يمكنه بأي حال من الأحوال أن يحوّل كرة القدم الى «عبادة» كما هو الشأن في بعض البلدان التي تتميز جماهيرها بالتعصّب الشديد.. ومع ذلك فالمشاهد التونسي قد يستسلم لحمى الحركة والصوت المشروع والتشنج والانفعال وفقدان الوعي أحيانا نظرا للرابطة القوية التي تجمع المحب بفريقه المفضل دون أن يعني ذلك أننا إزاء حالة من «الجنون الجماعي».. علما أن المشاهد التونسي قد يخضع أيضا أثناء مشاهدته لبعض المنتخبات الى العوامل السياسية والدينية والثقافية فقد يعزف عن تشجيع المنتخب الأمريكي مثلا نظرا لعلاقة الولاياتالمتحدة بإسرائيل والأمر نفسه بالنسبة لمنتخب هولندا.. وعادة ما يجد في المنتخبات القريبة منه جغرافيا أفضل معوض لغياب منتخب بلاده أو المنتخبات التي يدين لها بالولاء مثل الجزائر والمغرب وليبيا.. مع العلم أن التونسي يعشق مصر ثقافيا لكنه يشجع الجزائر مثلا رياضيا لأن التونسي يخضع الى حكم الجوار كلما تعلّق الأمر بالرياضة».