أحدث قرار العقيد الليبي معمر القذافي تأميم النفط صدمة مدوّية بالنسبة الى الولاياتالمتحدة التي أزعجها كثيرا هذا القرار و بث فيها الهلع كما أزعج شركاتها النفطية... حاولت واشنطن التصدّي لهذا القرار الليبي و الضغط على القذافي و محاصرته من خلال الضغط على حلفائها لمقاطعة النفط الليبي ولكن سوق النفط الدولي لم يكن كما كان عليه الحال في أوائل الخمسينات حين أدّت مقاطعة المشترين الى رضوخ ايران فقد استطاع القذافي أن يجد هامشا من المناورة و يجلب مشترين بدلاء للنفط الليبي في أوروبا الشرقية و بعض الدول الغربية ما مكّنه من مقاومة الضغوط الأمريكية حتى اضطرت الشركات الأمريكية في الأخير الى محاولة حل نزاعاتها مع السلطات الليبية سلميا و الرضوخ للقرار الليبي. لكن ذلك لم يثن العقيد الليبي عن مواصلة تأميم النفط و لم يدفعه الى التراجع عن قراره او حتى التفكير في مراجعته فقد استمرّ في تأميم جميع الموارد النفطية في البلاد، من خلال إصدار قانون احتوى على 16 مادة خلال العام 1973، ينص على تأميم 51 بالمائة من أصول كل الشركات العاملة في مجال النفط في جميع أنحاء ليبيا مؤكّدا اصراره على المضي قدما في قراره باسترجاع ثروات بلاده النفطية كاملة او السيطرة على منابع النفط. نجح القذافي في تأميم النفط وكل القطاعات الاقتصادية و ضيّق الخناق على الشركات الأمريكية واعاد صياغة شروط وقوانين المشاركة في قطاع النفط ووضع سقفا للانتاج في قرار شكّل انقلابا مدوّيا في العلاقات الليبية-الأمريكية بعد أن كانت كلّ صادرات النفط الليبي تقريبا تجد طريقها نحو الولاياتالمتحدة في بداية السبعينات في حين كانت الشركات الأمريكية تسيطر على ما لا يقل عن 90% من إجمالي انتاجه الذي بلغ آنذاك ما يزيد عن 3 ملايين برميل يومياً. كانت الثروة النفطية الهائلة التي تحققت لليبيا وسيلة اعادت صياغة توجهات القذافي لينطلق في مغامرات اقليمية ودولية قادته الى التصادم مع السياسة الامريكية. في الاثناء سارعت الولاياتالمتحدة الى اتخاذ خطوات تقلّل من ارتباطها بالقذافي الذي واصل من جهته استخدام شعارات معادية للغرب والتهجم على الولاياتالمتحدة وسياساتها الخارجية بل انه حرّض على مهاجمة مصالحها. على هذه الخلفية واصلت الولاياتالمتحدة بدورها "قصف" القذافي بالتهديدات و اتهمته بالوقوف وراء ما وصفتها ب"العمليات الارهابية" ضد مصالحها في الوطن العربي و أوروبا بالتعاون مع ما قالت انها "عناصر فلسطينية متطرفة و جماعات ارهابية". في المقابل كان التحرّك السياسي و الاعلامي الليبي يخوض مواجهة اعلامية مع الولاياتالمتحدة محاولا في نفس الوقت دفع الدول العربية الى تشكيل جبهة للصمود و التصدي والدعوة الى رفض الهيمنة الأمريكية. في ضوء ذلك خرجت مظاهرات حاشدة في طرابلس في ديسمبر 1979 تخللها حرق مقر السفارة الامريكية الذي سرعان ما ردّت عليه الولاياتالمتحدة بطرد بعض الديبلوماسيين الليبيين من واشنطن. و على خلفية هذه الاتهامات الامريكية قررت ليبيا في ماي 1981 اغلاق سفارتها في واشنطن و قطع العلاقات بين البلدين وسط تصاعد التهديدات بينهما. و لم يقف الأمر عند هذا الحد بل سارعت الولاياتالمتحدة الى تحريك اسطولها امام خليج سرت و في المياه الاقليمية بينما قامت طائرة امريكية باسقاط طائرتين ليبيتين فيما طالب الرئيس الامريكي رونالد ريغان الرعايا الأمريكيين بمغادرة الاراضي الليبية. و في اجراء تصعيدي آخر قامت الولاياتالمتحدة بقطع العلاقات الدبلوماسية من جانب واحد كما حظّرت استيراد النفط الليبي في عام 1982 وفرضت عقوبات مشدّدة على ليبيا خلال العقدين الاخيرين من القرن الماضي. و هكذا انتقلت العلاقات الليبية الامريكية من مرحلة الخلاف الى العداء... و من العداء الى القطيعة... و من القطيعة الى الصدام الذي بلغ اوجّه بعد تصنيف القذافي للولايات المتحدة بأنّها "العدو رقم واحد". في المقابل كانت الدولارات النفطية التي دخلت خزينة القذافي اساسية في اعطائه الاحساس بالقدرة على التصرف بحرية دون ان يضطر الى الخضوع لشروط المؤسسات المالية الأمريكية كمعظم قادة المنطقة الذين اضطروا للاستدانة. هكذا كان ممكنا له ان يقوم بدور المشاغب او المعارض على الصعيد العالمي وان يصرف على "مغامراته" بسخاء. فأدمن القذافي دعم خطط استهداف المصالح الامريكية...و مع كل تهديد و تصعيد في الموقف الليبي كانت الولاياتالمتحدة تشدّد في المقابل من عقوباتها و تعمل على زعزعة النظام الليبي وصولا الى قصف بيت القذافي في باب العزيزية بطرابلس في 1986 علاوة على دعم تكوين معارضة له ومساندتها. في الحلقة القادمة حقائق و تفاصيل اخرى