أخيرا، سقط القناع وقضي الأمر في الجنوب السوري بعد أن رضخت الجماعات الارهابية يوم امس ووقّعت على اتفاق استسلام في مدينة القنيطرة وبع ان تهاوى مخطط القوى الاقليمية والدولية التي وبعد ان استثمرت في هذه الحرب الدموية الطويلة تارة عبر ورقة "داعش" وطورا بورقة "النصرة"وجدت نفسها اليوم مجبرة على الانقلاب على كل تفاهماتها مع هذه العصابات المسلحة بعد أن وقع نظرها على التحوّلات الميدانية والسياسية الهائلة التي نقلت الأزمة السورية من فيينا الى جينيف ومن جينيف الى استانة قبل أن تستقر أخيرا في العاصمة الفنلندية "هلسنكي". وما جرى في "هلسنكي" بين بوتين وترومب من مباحثات الاثنين الماضي، ورغم أنها شملت مسائل كثيرة للنقاش ومسائل أخرى للتفكير، بحسب تعبير دونالد ترامب الا أنه فتح ثغرة مهمة في جدار الأزمة واعاد المسار السوري مجددا الى طاولة التفاهمات كأولوية قصوى بالنسبة الى الأمريكي قبل الروسي. كان واضحا في المباحثات الموسّعة بين بوتين وترومب في هلسنكي حرص الرئيسين على عرض العموميات لمنع تغذية الحملات بوقود الحريق السوري المشتعل في وجه ترامب لكن المحادثات الثنائية التي سبقت الاجتماع الموسّع والتي استغرقت أكثر من ساعتين للتفاهم على بعض الملفات الحسّاسة على الأرجح كانت بداية جيّدة للجميع وفق تعليق ترامب، وقد يكون في طليعتها الحل الروسي للأزمة السورية والانسحاب الأمريكي. من الواضح اليوم أن ترومب الذي ظلّ يحلم، وحيدا، الى الوراء بعيدا، وصل اليوم الى قناعة بأن الحسم في سوريا لا يمكن أن يكون إلا عبر البوابة الروسية وفي سياق منظومة خفض التوتر ذاتها التي كان- الى وقت قريب- يرى أنها لا تلج الى الحلّ السياسي الذي كان على طاولة النقاش "المضني" في جنيف وأخواتها. الانكفاء الذي يسود سلوك الادارة الامريكية اليوم وخفض سقف مطالبها حتى اللحظة وتراجعها عن تهديداتها المتكررة ومطالبها، لم يكن نتيجة قناعة سياسية بل نتيجة واقع فرضته الانتصارات التي يحققها الجيش السوري في معادلة الميدان نتيجة فشل الضغط السياسي الاقليمي والدولي على سوريا وروسيا. احتراق ورقة جنيف وانهيار موقف تركيا الاستراتيجي وإحباط مناطقها العازلة وانهيار مجموعاتها المسلحة واستنفاد الولاياتالمتحدة ل"الورقة الكردية" وعودة الجيش السوري إلى تموضعه على الحدود، كلها خيارات أخذت الرئيس الامريكي دونالد ترومب الى الإقرار بالأمر الواقع والموافقة على تفاهمات جديدة مع موسكو تقضي بانهاء الحرب في سوريا... لكن هذا الحسم الذي يتشكّل اليوم على قاعدة "تحجيم" الوجود الايراني وتعهّد ترومب في المقابل بسحب قواعده من الشرق السوري ، ووقف التصريحات المطالبة برحيل الرئيس بشار الأسد واستعجال المرحلة الانتقالية وإن كان يوفر لواشنطن موطئ قدم مهم في مسار التسوية السورية إلا أنه يمنح بلا شك أوراق قوّة إضافية للاعب الروسي ويوفّر زخما جديدا لمسار التسوية السورية المأمولة الامر الذي يضعنا أمام مشهد جديد بوقائع جديدة واحتمالات عديدة يبقى الحسم فيها، بيد الجيش العربي السوري وبمدى قدرته على امتلاك عنصر المبادرة والمناورة .