تعملُ عدّة أطراف على تصوير الراهن التونسي على أنّه راهن لأزمة حكوميّة مرتبطة بالاختلاف حول بقاء الحكومة الحالية أو رحيلها أو الاكتفاء بتحوير وزاري وسدّ الشغورات الحاصلة بعد إقالة وزير الداخلية السابق لطفي براهم واستقالة الوزير المهدي بن غربيّة. والوقائع تؤكّد أنّ الأزمة أشمل من ذلك. وهي شديدة التركيب والتعقيد، بعد تراكم سيل من التجارب الفاشلة وخيبات التحصيل الاجتماعي والاقتصادي واهتراء المشهد الحزبي وتآكله إلى الدرجة التي يذهب فيها البعض الى القول بأنّ تونس تتَّجه الى إعادة استنساخ نظام حكم الحزب الواحد في أفق 2019. هي أزمة على غاية من الصعوبة، لذا لا يبدو السبيل سالكا لتجاوزها وفكّ عقدها المختلفة. ومخطئ من يتصوَّر أنّ التغيير الحكومي، سواء أكان جزئيا أو شاملا، كافٍ لإنهائها وتأمين مسار جديد لحراك وطني فاعل ومثمر. هي أزمة نتاج تراكمات سلبيَّة سابقة عديدة لم تفلح النخبة في إيقاف نزيفها والحدّ من تداعياتها على المشهد السياسي العام وعلى حياة المواطنين اليوميّة. بل ضاعفت صراعات السلطة وهواجس تصفية الحسابات وحروب التموقع في أروقة الحكم من انعكاساتها وارتداداتها باستشراء الفساد وشراء الذمم ومناورات اللوبيات ومجموعات المصالح التي بلغ صداها أجهزة الدولة والحسّاسة منها على غرار وزارة الداخليّة. ولن يكون هناك حل واضح وقريب. وقد تكبُر كرة الثلج بواقع التدافع العنيف والاستقطابات المختلفة وتبادل الاتهامات وتنصّل الجميع من المسؤولية وانفتاح الصراع على أساليب خطيرة في نشر الغسيل الوسخ وهتك الأعراض ونشر الإشاعات والأكاذيب واستباحة الخصوصيات واستثمار أسرار الدولة والملفات الأمنيّة والقضائيّة في الإدانة المتبادلة ومعارك كسر العظام وحصد الغنائم. إنّها أزمة في منطلقها أخلاقي وقيمي نتيجة الأنانيّة وطغيان المصالح الشخصيّة الضيّقة وهوس الزعاماتية والركوب على الكراسي على قاعدة الغاية تبرّر الوسيلة. فكل شيء مُباح في سبيل السلطة والغنيمة، دوس القوانين والقيم والمشتركات المجتمعيّة والانجرار إلى أساليب الفساد والإفساد والخيانة والنكران والعناد والمكابرة. وهي أيضا أزمة سياسيّة، يختلط فيها واقع التنافس السياسي الرديء بانخرام واقع التوازن السياسي في ظل ما يعيشه حزب نداء تونس من تجاذبات وصراع قيادات وبانخفاض المنسوب الديمقراطي لدى قطاعات واسعة من النخبة وتراجع رهيب لجاذبية الحريّة والتعددية والانتقال الديمقراطي، يُضاف إلى ذلك صعوبات دستوريّة وقانونيّة متعلّقة بالنظام السياسي والقانون الانتخابي على وجه الخصوص، يُضاف إليها استعجال المنافسات الانتخابية المقبلة وسوء تقدير المواقف الوطنية الكبرى ذات الأولويّة. وهي كذلك أزمة مجتمعيّة تعكسها المؤشرات السلبيّة وغياب تغيّر حقيقي في المعيش اليومي للمواطنين وتباطؤ مكتسبات التنمية والتشغيل وتطوير البنية التحتيّة والاستجابة للكثير من حاجيات الناس وخاصة في المناطق الداخليّة وما باتت تشهده حاجيات أساسيّة كالماء والكهرباء والصحَّة والنقل من صعوبات. دون نسيان ما تعيشه مؤسّسات الدولة وخاصة المالية العموميّة من إكراهات متزايدة نتيجة ارتفاع حجم التداين الخارجي وتواصل عجز الصناديق الاجتماعية وانهيار قيمة العملة الوطنيّة وارتفاع نسبة التضخّم وانخفاض الرصيد الوطني من العملة الصعبة. هي سلسلة من الحلقات المترابطة التي تُفضي الواحدة منها الى الأخرى وتنعكس عليها بصفة سلبيَّة تجرّها جرّا الى المزيد من الخيبة والانكسار. لذا فمنطلق الحل يكون بالاعتراف بهذا الواقع المعقَّد والمركّب والاتفاق الجماعي حول تشخيص موضوعي لمختلف مظاهره وبدء مسار العلاج والإصلاح. ودون ذلك سيكون الاكتفاء بمظهر وحيد للأزمة مدخلا الى مزيد التجاذبات والتعقيدات والتراكمات السلبيّة ومزيد انغلاق الأفق السياسي والاجتماعي والاقتصادي للبلاد.