تدفقت صور الذكريات في رأس جميلة وتزاحمت فيه تزاحم أفقدها كل ترتيب زمني وفاحست وهي تعيش الأحداث من جديد وكأنها تحضر عرض فيلم صوّر بالتصوير السريع. عجيب أن يكون الانسان البطل والمتفرّج في ذات الوقت معا! كانت الصورة الأجمل والأكثر إثارة للحزن والتي ارتسمت على كامل شاشة ذاكرتها تلك التي جمعت بعد افطار اليوم الأول من رمضان عناصر من الفدائيين التابعين للمنطقة الحرة للجزائر العاصمة. ياسف السعدي قائد هذه المنطقة هو الذي طلب التقاط هذه الصورة بالأسلحة في الأيدي. كان السعدي يلح بلا انقطاع أن تكون أسلحتنا قريبة منا احتسابا لكل خطر وحتى نتعود عليها كجزء غير منفصل عنّا. كان الافطار شهيا وكان السعدي لا يتوقف عن الحديث مركزا على ضرورة الحيوية لكل عنصر منّا أن يتحلى بالحذر واليقظة وموضّحا أن بحوزته معلومات متأكدة حول تجنيد البوليس الفرنسي لعدد من «الزُرق» لكشفنا والتبليغ عنّا، ومن هؤلاء «الزرق» وهم الأخطر على الاطلاق حسب ياسف السعدي وأفراد انتموا إلى صفوف المجاهدين من جبهة التحرير ونجح بوليس المستعمر في «قلبهم» ضدّنا. ولمّا قام الجميع بالتقاط الصورة اشار ياسف السعدي بيده الى مصطفى بوحيرد ألا يلتقط الصورة وهو يقول: «هل نلتقط الصورة وبطل المستقبل لم يلتحق بنا؟» ثم أشار بيده الى ابن أخيه بتي عمر «العمر الصغير» ان يلتحق بالمجموعة قائلا: «ألم أقل أن تترك الخجل نهائيا؟». لا تدري جميلة بالضبط والى حد اليوم وطبيعة ما كانت تشعر به أزاء الطفل ياسف عمر أو «بتي عمر» كما كان يطلق عليه الجميع. كانت تكن له عطفا كبيرا كما لو كان ابنها ولعلها تمنت لو كان الأمر كذلك وكان بتي عمر فعلا أول أبنائها لو كانت متزوجة. كانت ترى في عيون هذا الطفل حماسا وفتنة كبيران وكانت ترى فيهما بالخصوص إرادة الحياة التي لم تمت رغم كل محاولات المستعمر مسخ الشخصية الجزائرية العربية الاسلامية. وكانت في الوقت ذاته تحس بوخزة ألم كلما نظرت في وجه هذا الطفل البريء التي تمنت لو كان مصير الجزائر بيدها فتراه مثل أبناء جيله منكبّا على دروسه يتعلم ويثقل مواهبه ويتفوق على أبناء المستعمرين ويعانق ياسف السعدي ابن أخيه عناقا حارا ويمضي يقول وكأنه أستشعر مشاعر جميلة : «سوف يذكر التاريخ دورك أيها البطل الصغير وبأنك تغلبت على خوفك الطفولي وجعلت منه سلاحا لمغالطة البوليس والمضليين الفرنسيين وساعدت على تسديد ضربة موجعة لهم أسقطتهم أرضا». ثم يلتفت السعدي الى علي لابوانت وكان ملازما للسكوت منذ بداية الافطار فيقول له: «لابوانت الآن جاء دورك لتطلعنا على خطة التصدي لمعركة الجزاء».