الجزائر. لقد تحوّلت الكلمة الى طاقة سحرية لا تنضب في داخل جميلة بوحيرد. فكلما نال منها التعب وبدأ يفتّ من عزمها وكلما حاصرتها التساؤلات وساورها الشك وكلما أحسّت ان جسمها قد بلغ حدّ طاقته... تذكر هذه الكلمة فتنجلي الغمّة فجأة ويمتلئ القلب نورا ويلوح الأمل براقا. الجزائر. لم تعد تذكر بالضبط متى وكيف أصبح لهذه الكلمة كل هذا التأثير العجيب في نفسها. إنها ماتزال تذكر ما قاله لها أبوها عمر بوحيرد بطريقته الخاصة وبأسلوبه الجامع بين العمق والإيجاز والدعابة. قال لها حين سألته كيف يمكن لشعب الجزائر الفقير الأمّي والأعزل أن يواجه قوة استعمارية قاهرة مدجّجة بكل أنواع الأسلحة؟ فأجابها بلا تردّد: «بالإيمان !» وأضاف في هدوء وهو يبتسم: «الإيمان سلاح لا يصدّ وهو في نفس الوقت مدرسة تحول الأميين الى زعماء والى استراتيجيين والهامشيين تحوّلهم الى أبطال وقادة. ولاحظ عمر بوحيرد تعجّب ابنته جميلة فحدثها عن المسلمين الأول من فقراء العرب وعبيد قريش الذين حولهم ايمانهم بالرسالة المحمدية الى قادة وأبطال حاربوا جيوش أكبر قوات عصرهم من فرس وروم وانتصروا عليهم بفضل ايمانهم. لم تنس جميلة حديث والدها ولعلها تذكرته أكثر من مرّة حين تلتقي بعضو جديد يستقطبه ياسف السعدي للجبهة ويقدمه للمجموعة حتى تتعرف عليه. ومن بين الاعضاء المستقطبين الجدد كان أفضل من رأت فيه جميلة الايمان مجسما أفضل تجسيم هو علي لابوانت.لم تكن جميلة تحبذ كثيرا أن تناديه بهذه التسمية وكانت تفضل اسمه الحقيقي علي عمّار لكنها انتهت بمسايرة المجموعة وقبلت بتسمية علي لابوانت. وكان علي لابوانت شابا وسيما لم يبلغ بعد الثلاثين من عمره، له عينان سوداوان يلوح منهما بارق الايمان وكثيرا ما كانت جميلة تداعبه فلا تحس منه غير تصميم لا يتزعزع على التضحية من أجل الجزائر.وكانت ترى في هذا الشاب كل واقع الجزائر المعذّبة المعوزة المحرومة من التعلم والمعرفة ولكنها كانت ترى فيه كذلك الجزائر المكافحة الصامدة المستشرفة الى لصباحها القريب.كان ابن هذا الخمّاس عند احد الفلاحين المعمّرين مطاردا في صباه كمنحرف. ادخله البوليس الفرنسي سجن بربروس فاحتضنه قادة جبهة التحرير فتحول الى فدائي وصار مطاردا من جديد ولكن كمناضل من أجل تحرير الجزائر هذه المرّة.وتذكرت جميلة قول أبيها وهو يعيد تلك الكلمة السحرية: «الإيمان!». وسمعت فجأة صوت أقدام فأدركت أن جحيم الاستنطاق سيبدأ من جديد. فقالت في نفسها بلهجة المتحدي: «فليبدؤوا استنطاقهم انا مستعدة والجزائر كلها في قلبي!».