اعتنى القرآن الكريم تصريحا وإشارة بتربية المسلمين على الاعتدال عاطفة وتفكيرا وسلوكا، فنصَّ على أننا أمة وَسَط، أي: بعيدة في كل شؤونها عن الحديَّة، وهذا ما يؤهلها للشهادة على الأمم. ومن لطائف كتاب الله تعالى أن الشروط التي طُلبت في بقرة بني إسرائيل يمكن تلخيصها في الاعتدال: ﴿قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَة لَا فَارِض وَلَا بِكْر عَوَان بَيْنَ ذَلِكَ﴾ [البقرة: 68]، فلا هي هرمة ولا هي صغيرة، بل سوية، أي: من أفضل الأنواع، وكذلك الشأن في لونها وعملها. وكما ورد في الحديث فإن أعلى درجات الجنة أوسطُها: «إذا سألتم الله الجنة، فاسألوه الفردوس، فإنه أعلى الجنة، وأوسط الجنة»، رواه ابن خزيمة. وقد حث الاسلام على خلق الاعتدال حتى في العبادات مثل الصلاة بان اعتبر رفع الصوت فيها أكثرَ من اللزوم صنوُ المخافتة إلى حدِّ الإسرار: ﴿وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا﴾ [الإسراء: 110]. وكذلك في الإنفاق بوصف عباد الرحمن بأنهم مقتصدون في الإنفاق: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاما﴾ [الفرقان: 67]. ولزوم الاعتدال في هذا المجال ليس أمرا هيِّنا، لأن المال يغري النفوس بالحدَّيْن: الإسراف والتقتير، أي: مجاوزة الحدِّ، أو التموقع دونه. ونلاحظ ورود لفظ "بين" في وصف البقرة والصلاة والإنفاق، وهي تدلُّ على نقطة الوسط بين طرفين، وذلك هو الاعتدال، نتعلمه من القصص القرآني ومن الأوامر والنواهي الشرعية. ونفس الامر في المعاش قال تعالى : ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا﴾ [الأعراف: 31]. وهذا مقياس الاستمتاع بالطيِّبات، ولا يقتصر الأمر على المآكل والمشارب، بل يشمل عناصر المعيشة جميعا، كاللباس، والأثاث، والمرْكب ونحو ذلك. ولئن كانت الآخرة هي المطلبَ الأعلى والمقصد الأسمى، فإن الاشتغال بما يُدخل الجنةَ لا يكون على حساب السعي من أجل الحياة الدنيا: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾ [القصص: 77]. وبهذا يحدُثُ التوازن في حياة المسلم، بعيدا عن التصوُّف العجمي الذي يخالف فطرة الله، وعن النزعة اللادينية التي تقطع الإنسانَ عن الآخرة وتأسره في سجن الدنيا. فالمسلم متديِّن بالضرورة، لكنه تديُّن معتدل منضبط بضوابط شرعية، تمنعه من الغلوِّ، إنه تديُّن يراعي الطبيعةَ البشرية وضعفَها وطاقتها المحدودة، فلا تكلُّف فيه ولا عنت، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم الصحابةَ الذين تشددوا في العبادة إلى درجة هضم حقوق النفس والزوجة، ودعاهم إلى التزام سنته المُتَّسِمَة بإعطاء كل ذي حق حقَّه، أي: بالاعتدال، وقال عليه الصلاة والسلام: «إن هذا الدين يسر، ولن يشادَّ الدينَ أحد إلا غلبه، فسدِّدوا وقارِبواى» رواه البخاري. وروى الإمام أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق، فإن المنبتَّ لا أرضا قطع، ولا ظهرا أبقى». وإنما أَوصى بكل هذا، لعلمِه أن التشدُّد عمرُه قصير، وخيرُ الأعمال أدومُها وإن قلَّ وليس أكثرها وإن انقطع، وقد أسهم الغلو في الدين إسهاما كبيرا في تشويه صورة الإسلام البديعة، وفي جلب المشكلات للمسلمين وجماعاتهم ودولهم وقضاياهم، وكلما كانت حياة المسلمين توسطا واعتدالا، جلبَ ذلك لهم الخيرَ بكل أنواعه.