تعيش تونس منذ أسابيع حالة من الاستعصاء السياسي غير المسبوق. إذ فشلت الطبقة السياسية في إيجاد حلول لتجاوز العلاقات المتأزمة بين مكوناتها. وعجزت حتى عن العودة الى ما قبل اجتماعات وثيقة قرطاج 2 بعد أن اختار قطبا الحياة السياسية التوافق منهجا لإدارة شؤون البلاد. وإذا كانت أغلب الانتقادات توجّه الى السلوك السياسي لكل من حركة «النهضة» وحركة «نداء تونس» بوصفهما القوتين الأساسيتين فإن الواقع يشير في الحقيقة الى أننا نعيش أزمة أعمق...أزمة لها بعدان متكاملان وهما اهتراء الثقافة السياسية التي تربت في اطارها النخب. وهوما يبدو جليا من خلال الأزمات المتلاحقة منذ ثورة 14 جانفي 2011 الى اليوم رغم الآمال التي علقت بالوصول الى وضع أفضل...علاوة على غياب الاتفاق والالتقاء حول نموذج مجتمعي تتجند كل الطاقات من أجل تكريسه. وليس غريبا في ظلّ مثل هذا الوضع الملتبس أن يكون النظام السياسي معطّلا لا فقط بفعل غياب عوامل بنيوية ووظيفية بل أيضا بسبب تردّي الممارسة السياسية وسلوك الفاعلين السياسيين. ويقينا أن سلوك الفاعل السياسي في تونس لم يرتق اليوم، إلى ما تتطلبه المرحلة الراهنة، على مستوى الأداء السياسي، كما على مستوى الخطاب بعد أن انخرطت جلّ الأطراف السياسية في صراعات عدمية ومعارك خاسرة. وهذه الصراعات السياسية التي تعيشها البلاد منذ نحو ثماني سنوات يجب أن تدق اليوم ناقوس الخطر لاسيما بعد أن أنهكت المواطن وأعاقت حركة الإنتاج وهدّدت المكاسب رغم هشاشتها. واذا لم تفكر الطبقة السياسية بمختلف أطيافها في الالتقاء حول الحد الأدنى الوطني وحول ثوابت مجتمعية تكرس التنمية العادلة فإن بلادنا ستكون مفتوحة على احتمالات لا نريدها. ولا بد من الإقرار، بأن البلاد تمر بأزمة سياسية واقتصادية عميقة لم تشهدها منذ سنوات. وهي أزمة أكبر من أن تحل بعودة «التوافق». بل إن عودة التوافق وفق نفس المنطق ونفس التصورات والشروط ستفضي الى مزيد تعقيد الأزمة بدل حلها. وهي كذلك أزمة اقتصادية لن يحلها قرض من صندوق النقد الدولي ولا منحة من أوروبا أوالصين، قد تأتي وقد لا تأتي، وإن أتت فلن تكفي لسد عجز ميزانية، فاق الإنفاق فيها طاقة الدولة التي عجزت الى حد الآن عن إيجاد خطة واضحة ، لمعالجة الوضع الاقتصادي المتدهور. واضح أيضا أن الاستمرار في معالجة الأمور سياسيا، وفق سياسات ارتجالية وفي مناخ سياسي متوتر، واقتصاديا من خلال تحميل المواطن مزيدا من الأعباء الاقتصادية، دون خطة وطنية واضحة، يطرح مخاطر حقيقية بات الجميع قلقا منها. ولا شكّ أنّ التقاء جميع الأطراف حول ميثاق جديد يعيد رسم قواعد اللعبة. ويؤسس لمرحلة جديدة من استنهاض العمل الوطني والسياسي في البلاد. ويحفّز التونسيين على البذل والعطاء والإصلاح والبناء قد أصبح ضرورة ملحّة أكثر من أي وقت مضى. لقد تم تأجيل العديد من هذه القضايا والملفات لسنوات، حتى وصلنا اليوم الى وضع لم يعد التأجيل فيه ممكنا. تحتاج عملية الإنقاذ فقط الى التحلي بالمسؤولية والوطنية... والى حكمة استثنائية.