القرآن العظيم باعتبار كونه كتاب الدعوة ومظهر المعجزة يعتبر عامل الايمان بحيث ان كل من امن ابتداء من اول المسلمين وهو النبيء صلى الله عليه وسلم لما امن هو برسالته ثم بالذين امنوا به من بعد افرادا وجماعات لم يؤمن واحد منهم بهذه الرسالة الا بناء على تلقي الدعوة من القرآن وعلى تسليم حق تلك الدعوة بما قام من المعجزة في القرآن . ولذلك نعتبره عامل الايمان . واذا كان عامل الايمان فانه يعتبر بذلك مكون الملة . فالملة الاسلامية انما تكونت بالقرآن العظيم باعتبار كونها صدقت حجته واتبعت دعوته . فهو حينئذ اساس لكياننا الاجتماعي معشر المسلمين على تعاقب الاجيال في هذه القرون الاربعة عشر . وهو الى جنب ذلك ركن عبادتنا ، وهو قوام الشخصية الفردية لكل مسلم ، وهو قوام الشخصية الجماعية لكل مجتمع من المجتمعات الاسلامية صغيرا كان من مجتمع الاسرة او كبيرا كمجتمع الملة باسرها . وهو الذي يعتبر مدد تفكيرنا باعتبار ان ايماننا به صبغ افكارنا وعواطفنا وانفعالاتنا بصبغ مستمدة من ذلك العامل الايماني اصبحت ذات اثر في كل ما ندركه من المدارك الذهنية وكل ما نحرك فيه نظرنا العقلي الذي نعبر عنه بالفكر . وأصبح زيادة على ذلك مادة لتعبيرنا فانه زيادة على ان اللغة العربية انما قامت بالقرآن وثبتت به واوتيت الخلد بسببه وانتشرت بين الاقوام التي هي منتشرة فيما بينهم بسبب دخول القرآن اليها فانه على ذلك يعتبر التعبير الذي يعبر به كل مسلم في كل لغة من لغات الاسلام التي هي كلها لغات ناشئة في التاريخ الاسلامي ، ومتأثرة بروح القرآن وليس من لغات المسلمين اليوم لغة سابقة لعهد نزول القرآن ولكنها كلها ناشئة في العصر الذي يعبر مبتدئا من نزول القرآن وهو العصر الاسلامي وصور المعاني وقوالب الافكار التي تشيع في كل لغة من تلك اللغات من العربية وغيرها انما تعتبر متأثرة بالقرآن العظيم باعتبار انه مدد الشخصية الجماعية وانه مدد التفكير الذي لم يكن التعبير الا قوالب له . وهو ايضا اساس النظام الاجتماعي لهذه الملة لان اصول المعاملات واداب الافراد ، وآداب الجماعات ، وربط روح العلاقات بين الافراد في النظام الاجتماعي انما كانت كلها مستمدة من كلمة القرآن العظيم ومهتدية بهداه . فاذا اعتبرنا القرآن بهذا الاعتبار ونظرنا الى اسلافنا اهل الجيل الاول الذين تلقوا القرآن العظيم بنقل النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة عن الروح الامين فاننا نرى ان تعاقب القرآن فيما بينهم منجما واتصالهم في كل نجم من نجوم القرآن ياتيهم باية مجددة من ايات الله واقترن ذلك بالمثال الكامل للمعاني القرآنية وهو النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان خلقه القرآن كما ورد في حديث عائشة في الصحيح فان الامة كانت تتخلق شيئا فشيئا بخلق القرآن على طريقة تجعل المعاني القرآنية منطبعة فيها انطباع الملكات فليست متلقية لتعاليم الدين وادابه وعقائده وشرائعه تلقي التلقين ولا التعليم ولكنها كانت تتلقاها تلقي التربية وكانت الطريقة التي تطبع المعاني القرآنية والملكات المعنوية المستمدة من معاني القرآن انما هي طريقة التربية التي تجعل الامر خلقا راسخا مبنيا على توجيه الغريزة الانسانية وجهة الارتباط والامتزاج بتلك المعاني السامية حتى تصبح بمنزلة الغرائز لان الغرائز انما تصرفت بالاتصال بها والانسجام معها . ولكننا اذا تركنا هذه الناحية السلوكية الخلقية التي ترجع الى الملكات ورجعنا الى التصورات الذهنية والاحكام العقلية والمعاني العلمية التي ارتبطت بالقرآن ونظرنا الى تعلق المسلمين بالقرآن من الناحية الفكرية فاننا نجد ان اساس الفكر وعماد العلم انما هو الكتاب ونجد ان القرآن العظيم هو الذي وضع فكرة الكتاب في نفوس المسلمين ووضع روح الكتاب سارية في اللغة العربية بحيث ان معنى الكتاب او في عصور الاسلام انما كانت كلها راجعة الى المعنى الذي هو مستمد من القرآن العظيم والذي اشار اليه قوله تعالى « ذلك الكتاب « . فاذا نظرنا الى ما الف في اللغة العربية وما صدر في عصور الاسلام مما يرجع الى ذات القرآن العظيم ، او ما يتصل به من قريب او من بعيد فاننا نجد انه لا يكاد كتاب من الكتب التي الفت في العربية او التصانيف التي صنفت في عصور الاسلام من نزول الاسلام الى اليوم ، يمكن ان يكون خاليا من لفظ او من معنى مستمد من القرآن العظيم بحيث ان الفكر في هذه الاربعة عشر قرنا واللغة كذلك في الاربعة عشر قرنا انما اصبحنا عالة على القرآن العظيم بحيث انه لا يمكن ان يستمر منهج من مناهج التفكير ولا طريق من طرائق التعبير ولا منهج من المناهج الادبية ولا اسلوب من الاساليب في الفكر او في الكلمة وهو متأثر بالقرآن ومعتمد عليه ومشتمل على مقتبس منه قليلا كان او كثيرا لفظا كان او معنى . يتبع