قرأت بتمعّن شديد الحوار المعمّق الشامل الذي أجرته مؤخرا جريدة الشروق مع السيد وزير الشؤون الخارجيّة. وأعتقد جازما أن القراء لا ينبغي أن يفوتهم الإطلاع على هذا الحوار القيّم الذي يأتي مناسبا وضروريا في توقيته وزمنه حتى يعرف القرّاء المزيد عن السّياسة الخارجيّة الرّاهنة في تونس والأعباء الدبلوماسيّة التي تتحمّلها في هذا الظرف الوطني والإقليمي الدّقيق. لقد عملت في الحقل الدّبلوماسي لأكثر من ثمان وثلاثين سنة في الشرق والغرب وأدرك جيدا بحكم الخبرة والتجربة جسامة المسؤولية الملقاة على كاهل السيّد الوزير خميس الجهيناوي في واحدة من أدق المراحل التي تعيشها تونس والعالم من حولنا. وقد أجاب الوزير بدقّة ووضوح ومسؤولية عن أخطر التحديات التي تواجه الدبلوماسيّة التونسيّة اليوم في تفاعلها مع استحقاقات الوضع الدّاخلي ورهانات الوضع الخارجي خاصّة في القطر الليبي علاوة على التعاون المثمر مع الشقيقة الجزائر ووقوف تونس الدّائم مع القضية الفلسطينيّة. بعيدا عن مسلك الشعارات توخّى السيد الوزير منهج المنطق والموضوعيّة والعقلانيّة للتأكيد على الثوابت التي تسير على هديها الدبلوماسيّة التونسيّة وهي ثوابت قوامها الحكمة والرّصانة والتعلق الثابت والدّائم بسيادة تونس ومصلحتها العليا وقواعد حسن الجوار والتعاون مع كلّ البلدان الشقيقة والصّديقة خاصّة ما يتعلق بالفضاءات المغاربيّة والعربيّة والإفريقيّة التي تشدّها إلى تونس روابط تاريخية وجغرافية وحضارية لا جدال في عمقها وتجذرها. لذلك كان السيد الوزير دقيقا وحاسما في التأكيد على عقلانية تونس في التعاطي مع الملف الليبي بدون اصطفاف وراء أيّ طرف كان من منطلق الوعي بأهمّية استقرار ليبيا السّياسي والاقتصادي لأنّ مستقبل تونس ووضعها الأمني مرتبط في جانب هام منه باستقرار الجارة ليبيا مثلما شدّد على ذلك السيّد الوزير. عقلانيّة الدبلوماسيّة التونسيّة تمتدّ كذلك إلى تمسّكها الشديد بسيادتها سواء برفضها القاطع لتركيز قواعد عسكريّة أجنبيّة فوق ترابها أو مسؤوليتها إزاء حماية حدودها حتى لا تكون مصدرا للهجرة السرّية، ناهيك وعي تونس بأهمّية العمل على كافة المستويات الدّبلوماسيّة لتكون رأس جسر بين إفريقيا وأوروبا وآسيا وفاء لصورتها الحضاريّة المعروفة منذ تأسيس قرطاج عندما كانت بلادنا مفترقا للحضارات ومركز إشعاع كبير. ولا شكّ أنّ تأكيد السيد الجهيناوي على أهمية الدبلوماسية الاقتصادية يأتي في سياق هذه الرؤية الشاملة والواضحة للعمل الدبلوماسي الناجع والناجح ما يكفل لتونس حركية سياحية واستثمارية جديدة يتمّ بمقتضاها كسب ثقة المزيد من المستثمرين في الأسواق القريبة والبعيدة واسترجاع ثقة السياح بعد مرحلة صعبة عاشتها تونس خلال السنوات القليلة الماضية. وإذا كانت تونس تقبل على عضوية غير دائمة في مجلس الأمن فإن المسؤولية تلوح مضاعفة لتفعيل دور تونس الخارجي وترسيخ الصورة الجديدة التي اكتسبتها دبلوماسيتها بعد مرحلة صعبة لا أحد ينكر فداحة أضرارها على صورة تونس الخارجيّة خصوصا في بداية الفوضى (لا عفوا الثورة). إجمالا حوار جريدة الشروق مع السيد وزير الشؤون الخارجيّة كان يطمئن بشكل كبير على حاضر ومستقبل الدبلوماسيّة التونسيّة التي عادت إلى حكمتها ورصانتها ولم تسقط في فخ يسمّيه الكاتب الأمريكي مايلزكوبلاند لعبة الأمّم.وبحكم خبرتي وتجربتي الطويلة في المجال الدبلوماسي بوزارة الخارجية ثم من الأردن إلى الجزائر مرورا بباريس أرى أن الدبلوماسيّة التونسية حاليا حققت انطلاقتها المرجوّة وكسبت الكثير من الثقة والمصداقيّة في التعاطي مع كلّ الملفات...ولا شكّ أن مستقبل الدبلوماسيّة التونسيّة سيكون بعون الله أفضل ما دامت الحكمة سلاحها والرّصانة منهجها والعقلانيّة جوهرها في وضع داخلي صعب وواقع عالمي أصعب. دبلوماسي أسبق عضو جمعية قدماء السفراء والقناصل العامين بوزارة الخارجية