فيما تنفست مصانع تركيب الحافلات الصعداء عقب توقيع صفقة مجمعة عام 2016 لتزويد شركات النقل العمومي بنحو 1100 حافلة على ثلاث سنوات وقفت هذه الصفقة فجأة في وسط الطريق نتيجة تباطؤ الحكومة في معالجة تأثيرات انزلاق الدينار على سعر التعاقد وشطحات عضو في البرلمان على شبكة التواصل الاجتماعي. * الشروق تونس: للتاريخ فإن قطاع تصنيع الحافلات الذي يتميّز بنسبة اندماج عالية تصل الى ٪60 كاد يندثر بفعل جمود شركات النقل العمومي طيلة ست سنوات منذ بداية 2011 الذي تخيّم تداعياته اليوم على أسطول النقل العمومي. حيث أن 300 من إجمالي 700 حافلة لدى شركة نقل تونس يناهز عمرها عشرين عاما. انزلاق الدينار وتضخم الكلفة وتبعا لذلك تم إطلاق طلب عروض في أكتوبر 2015 لتجديد أسطول الشركات العمومية للنقل عبر تزويدها ب 1108 حافلات جديدة محلية الصنع على ثلاث سنوات. وذلك في صيغة صفقة مجمعة أشرف عليها الديوان التونسي للتجارة. وتطلب تنفيذ هذه الصفقة عدة مراحل الى حين إبرام العقود المباشرة بين المصنعين الثلاثة وشركات النقل بين موفى 2016 وبداية 2017. وفيما عادت عجلة الإنتاج الى الدوران في المصانع التونسية الثلاثة طرأت فجأة معضلة تسارع انزلاق الدينار إزاء اليورو. وهو ما جعل كلفة الإنتاج تتجاوز أسعار التعاقد بين الدولة والمصانع رغم هذه الأخيرة قامت على احتساب نسبة تضخم سنوية للكلفة تناهز ٪7 على امتداد السنوات الثلاث لتنفيذ العقود أي تسليم الحافلات الى الشركات العمومية للنقل. وفي هذا الصدد أكد فتحي العبيدي المدير العام المساعد لمؤسسة «سات كار» التي حصلت على عقد تصنيع 538 حافلة منها 494 لفائدة «نقل تونس» أن سعر التعاقد ضبط على أساس معدل انزلاق الدينار إزاء اليورو الذي لم يتجاوز ٪2.5 سنويا بين 2011 و2015. وهو معطى سرعان ما سقط في الماء بفضل التسارع المفاجئ لانزلاق العملة الوطنية الذي تجاوز ٪20 في سنة واحدة وهي 2017. وتبعا لذلك ارتفعت كلفة المكوّنات المستوردة وأساسا «الجذع المعدني» للحافلة. وهو ما تسبب في كلفة إضافية تناهز 100 ألف دينار للحافلة الواحدة وخسارة بنحو 25 مليارا من المليمات في حال عدم تعديل أسعار التعاقد التي كانت في حدود 399 ألف دينار للحافلة المزدوجة و239 ألف دينار للحافلة العادية. ورغم هذه التطوّرات المفاجئة لم تتوقف الشركة عن تنفيذ الصفقة. وقامت بتسليم الدفعات الأولى حسب الأجندا المضبوطة بالتوازي مع رفع طلب الى الهيئة العليا للصفقات العمومية لمراجعة أسعار التعاقد. صعوبات مالية ومن جانبه أكد المنصف القليبي المدير العام لمؤسسة «ألفا» التي حصلت على عقد تصنيع 395 حافلة لفائدة الشركات الجهوية للنقل أن تسارع انزلاق الدينار إزاء اليورو تسبب في ارتفاع كبير في كلفة التصنيع مقارنة بأسعار التعاقد. وتبعا لذلك طلبت الشركة من الهيئة العليا للصفقات العمومية مراجعة أسعار التعاقد. لكنها لم تتوقف عن التصنيع وتزويد الشركات الجهوية وفقا للأجندا الزمنية التي تم ضبطها. وهو ما جعل الشركة تواجه اليوم صعوبات مالية جسيمة. بالمحصلة فإن تباطؤ الحكومة في التفاعل مع تداعيات موضوعية لأزمة الدينار التي تلقي بظلالها اليوم على عديد القطاعات يضع المؤسسات الوطنية الثلاث أمام واحد من خيارين إما التوقف عن الإنتاج أو مواصلة تنفيذ الصفقة مع تكبد خسائر ضخمة تهدد توازناتها المالية. حرب المواصفات والأخطر من ذلك أنه رغم التزام الشركات الثلاث بمواصلة التصنيع مع تحملها ضغوطات مالية جسيمة فقد اصطدم تنفيذ الصفقة باندلاع «حرب المواصفات» عقب رفض شركة نقل تونس تسلّم 65 حافلة مزدوجة لا تزال رابضة في مستودعات «سات كار» منذ عدة أشهر بعد أن توصل خبراء نقل تونس الى عدم تطابق أنابيب التبريد مع المواصفات المضمنة في كراس الشروط رغم استظهار المصنع بشهادة من الشركة الأم «فولفو» تثبت أنها قامت بإدخال تعديل على أنابيب التبريد في نطاق جيل جديد من الحافلات وكذلك التزامه بضمان أنابيب التبريد مدة 15 عاما؟ وتبعا لذلك لاحظ المدير العام المساعد لمؤسسة «سات كار» أن التعطيل الحاصل يعود الى حملة كان شنها عضو في البرلمان على الصفقة المجمعة وادعائه بوجود شبهة فساد. وهو ما كان كافيا لتحييد المسؤولين في شركة نقل تونس ووزارة النقل دون وجود أي مبرر موضوعي مذكرا بأن دفعة أولى من 83 حافلة فردية كانت أيضا عرفت أخذا وردّا قبل أن تتسلمها شركة نقل تونس. ثلاثة خبراء في المقابل أكد صالح بلعيد ر.م.ع. شركة نقل تونس أن الشركة بصدد انتظار المحكمة بخصوص تأثير التغيير الحاصل في أنابيب التبريد على السلامة والكلفة قبل إتمام إجراءات الصفقة مذكرا بأن "نقل تونس" كانت أيضا قد أرجعت 30 حافلة من الدفعة الأولى البالغة 83 حافلة بعد ملاحظة إخلالات فنية قبل أن يقوم المصنع بإصلاح الإخلالات. ولم يخف في المقابل أن الشركة تضررت كثيرا من التأخير الحاصل في تنفيذ الصفقة جراء محدودية وتقادم الأسطول الذي لا يتجاوز 730 حافلة مقابل احتياجات في حدود 950 حافلة مؤكدا من جهة أخرى أن مشكل تأثير انزلاق الدينار على كلفة التصنيع يتجاوز مشمولات الشركة. من يستهدف قطاع الإنتاج؟ بالمحصلة تزداد اليوم معاناة المواطن جراء تقادم أسطول الحافلات ومحدوديته. وذلك بسبب التفاعل البطيء للحكومة مع تداعيات الانزلاق الحاد للدينار الذي أربك عديد الصفقات العمومية وكذلك عدم تخلص البلاد الى حد الآن من إفرازات المناخ الثورجي الذي يجعل مجرد شكاية مجهولة المصدر أو تدوينة على شبكة التواصل الاجتماعي كافية لتجميد صفقة عمومية مثلما حصل سابقا في عدة صفقات مثل صفقة بطاقات الانخراط الالكترونية لل"كنام" التي سقطت 10 مرات في الماء بسبب عرائض مجهولة المصدر. ثم إن ما يحصل اليوم في صفقة الحافلات هو امتداد لهجمة شرسة على قطاع الإنتاج تشهده تونس منذ 2011. وستكون نتيجته اذا تواصل تحويل البلاد الى سوق لفواضل الآخرين مثلما حصل منذ ثلاث سنوات في قطاع الحافلات بالذات عندما لم تجد الحكومة خيارا لمعالجة النقص الفادح في الأسطول عدا توريد الحافلات القديمة من أوروبا.