ما لم نلتقط الجواهر المنثورة في الصحف، بين فقرات الأخبار وقصاصات الإشهار، فلسنا أهلا للصحافة أصلا. قالها المرحوم المنجي الشملي - وهو الناقد الأديب - أحسن منّي مقدّما رواية « مغامرات رقبوش» لآرتور بيليقران (تعريب محمد العربي السنوسي، ميدياكوم، تونس 2008) : « الصحافة معدن علم ومنجم جواهر الفكر. نقرأ الجريدة صباحا أو نقبل على مطالعتها مساء، ثمّ نهملها أو نتلفها، ونحن لا ندرك أنّنا أهملنا وثيقة مهمّة تزداد قيمة على مرّ الأيّام. ليست قيمة الباحث الأصيل في وضع جذاذات للصحف، بل المهمّ هو العناية بمضمون ما تنشره الصحف استنطاقا للنصوص. ذلك علم وأيّ علم ! ولا يغيب عن الباحث الأريب أنّ كتبا قيّمة كثيرة هي أصيلة الصحافة. « نعم ! تلك هي الصحافة، يوميّة كانت أو أسبوعيّة، بغثّها وسمينها، ما كلّها جدير بالحفظ، وما كلّها حقيق بالإهمال. مثال واحد من عدّة أمثلة مشهورة وأخرى مغمورة يكفي، هو « حديث الأربعاء « لطه حسين. وشخصيّا راجعت جلّ ما كتبت ممّا وثّقت في صناديق الأرشيف المحيطة بي فوجدت أكثره صالحا للنشر مرّة أخرى ومواكبا لأحوالنا ومتعلّقا بقضايانا، فطفقت أختار وأرتّب وأجمع فصول الكتاب بعد الكتاب حسب وحدة الموضوع، فكان أوّلها مجموعة مقالات بعنوان « ثلاثيّات ثقافيّة « ( الأخلاّء، تونس 1983) وتلتها أخرى بعد أربع وثلاثين سنة بعنوان « ثنائيّات فكريّة « ( سحر، تونس 2017). وكانت منها مجموعتي القصصيّة الأولى « رسم» ( سحر، تونس 1995). ومنها مجموعات أخرى في القصّة والشعر تنتظر النشر في كتب، كعديد المقالات التي قدّمت بها الإصدارات الجديدة في الملاحق الثقافيّة لجرائد « بلادي « و « العمل « و « الحرّية « ومجلاّت « الإذاعة والتلفزة « و « الهداية « و»المجلة الصادقيّة» و»دراسات أندلسيّة» و « الفكر الحرّ» وغير ذلك من الدوريّات. وبنفس الروح من الحماس والغيرة على الإنتاج الأدبي والفكري اعتنيت بأعمال غيري من المقالات والدراسات المنشورة هنا وهناك، فجمعت بالتبويب والتحقيق والتعليق « أندلسيّات « سليمان مصطفى زبيس ( وزارة الثقافة، مركز الاتصال الثقافي، سلسلة ذاكرة وإبداع، تونس 2004 ) و « مغاربيّات « عثمان الكعّاك ( نفس الناشر والسلسلة، 2013 ) ومقالات مصطفى الفارسي بعنوان «من وحي الساعة « ( دار حركات ونادي مصطفى الفارسي، تونس 2011). كما ساعدت غيري على جمع أعماله وحثثت آخرين على نفس الشيء، مرغّبا ومرهّبا، كأن أقول لأحدهم : « إن لم تنهض لهذا الأمر في حياتك فلن يقدم عليه أحد بعدك. وإنّه لعلى درجة عالية من القيمة. فماذا تنتظر ؟ أمّا أنا فلا تعوّل عليّ لانشغالي بهمّي». والله هو المعين الموفّق والمشكور على فضله وإن لم يؤتنا من العلم والجهد والعمر إلاّ قليلا.