تونس الشروق: عادت حركة النهضة لتكون في الواجهة مع تطوّر لافت في محاولة جرّها إلى مربّع الملفات الأمنيّة والأخونة والعمل السريّ والاتهام، القديم الجديد، بالازدواجيّة وعدم المدنيّة وتهديد سلامة أجهزة الدولة والتورّط في الاغتيالات السياسيّة. منذ الثورة، بل ربّما منذ ثمانينيات القرن الماضي، كانت النهضة دائما في الواجهة، وكان آخر صعود لها بمناسبة الانتخابات البلديّة حينما جاءت الأولى وحازت رئاسة أبرز المجالس البلديّة وأهمّها العاصمة. حينها بدت النهضة قويّة متماسكة برغم تراجع عدد ناخبيها الذي لم يكن يعني الكثير بحكم ظاهرة العزوف الانتخابي العام، واستشرفت القراءات حينها انطلاق النهضة في طريق مفتوح للفوز، أو امتلاك قدرات الحسم، في الاستحقاق الانتخابي التشريعي والرئاسي المقرر نهاية 2019 مع ورقة دعائيّة مهمّة في استثمار العمل البلدي للتدليل على قدرات الفعل وتطوير أوضاع المدن والقرى والأحياء الشعبيّة ومن ثمّ حيازة المزيد من الأنصار والمؤيّدين وكسب أرضيّة مثلى للفوز وبأريحيّة. ولكن يبدو أنّ الحصاد الانتخابي البلدي الجيّد للنهضة كان له انعكاس سلبي على المشهد العام في البلاد، إذ لم تمر أيام قليلة على إعلان النتائج حتى اندلعت أزمة سياسيّة كان واضحا منذ بدايتها في 29 ماي الفارط، أنّها ستكون حادّة لانفضاض وثيقة قرطاج واحتدام التجاذبات داخل النداء وخاصة الخلاف بين المدير التنفيذي ورئيس الحكومة، وهو الخلاف الذي كان له ارتداد سلبي على العلاقة بين رأسي السلطة التنفيذيّة وهدّد بصفة مباشرة بنقل الخلاف إلى معركة داخل أروقة الدولة. تغيّرت المواقع فتغيّرت المواقف قد يكون من الوجيه اليوم، القول بصواب التبرير الذي قدّمته قيادات النداء، ومنها حتى الرئيس المؤسّس، في المطالبة بإقالة يوسف الشاهد وإجراء تعديل حكومي، وبعيدا عن كون السبسي هو من اختاره وهو ابن النداء، فإنّ الخيبة الانتخابية البلديّة، وقبلها بقليل خيبة الانتخابات التشريعية الجزئيّة في ألمانيا، كانتا مؤشرين على عدم رضا مناصري الحزب على الوضع العام في البلاد وأيضا على الأداء الحكومي، ناهيك وأنّ الشاهد نزل بثقل كبير في الحملة الانتخابية للنداء دون التأثير البارز والقدرة على إقناع الناخبين. ويكون من الوجيه اليوم التأكيد ايضا على أنّ الهزيمة الانتخابية كانت مربكة جدا للنداء ورئيسه المؤسّس، فقد فقدا الريادة لفائدة الخصمين /الشريكين، اي النهضة والغنوشي. النهضة التي كانت تقول إلى وقت قريب بأنّها لن تعمل على تغيير الموازين التي أفرزتها انتخابات 2014 وأنّ الانتخابات البلدية هي انتخابات محليّة مخصوصة لن يكون لنتائجها تأثير على التراتبيّة الحزبيّة في المشهد السياسي، وأنّها ستنتظر انتخابات 2019 وما ستفرزه من أحجام انتخابيّة، هزّتها حالة الارتباك التي لحقت شريكيها، وأوقع خلاف السبسي- الشاهد مخاوف فعليّة على استقرار الدولة واحترام الضوابط الدستوريّة وأيضا هواجس حول إمكانيّة تعطيل المسار الانتخابي، وسط ما رشح حينها في الكواليس من حديث عن تأجيل انتخابات 2019 وتقدّم السبسي خطوات في اعادة إسطوانة الاستقطاب الأيديولوجي بإثارته لملف الحريات الفرديّة وتحديدا الجزء المُربك منه المتعلّق بالمساواة في الإرث. مقولة سياسيّة لصناعة تحالفات جديدة اتّضح تدريجيا أنّ المقولة السياسية المُستحدثة (الاستقرار الحكومي) استثمار براغماتي لموجة رئيس الحكومة الشاب القادر على التحدي والمغامرة ومقاومة غول الفساد وركوب الأمواج العاتية، بما فيها لي ذراع الأب الروحي والوقوف في وجهه الند للند، هذا التحوّل وضع النهضة أمام بوابة مفتوحة لصناعة تحالفات جديدة وإطلاق العنان لمشهد سياسي جديد تكون هي قاطرته عبر مسكها بالمعادلة البرلمانيّة وامتلاكها «سلطة القرار» في كل ما يهمّ التشكيل الحكومي ورئيس الحكومة، لتنكشف لاحقا حقيقة التفاوض مع الشاهد لبناء شراكة وبدء تحوّل كبير في المشهد السياسي. اختارت النهضة طريقها، بشكل إرادي، ورسمت بحكم ثقلها البرلماني، ملامح المشهد السياسي العام في البلاد بالتعويل على رئيس الحكومة الشاب وموقف للأطراف الخارجية يبدو داعما للاستقرار الحكومي، وتتّجه الحياة الوطنيّة اليوم ولأوّل مرّة إلى تجريب فعلي وحقيقي للنظام السياسي الذي جاء به الدستور في التنصيص على حكم الأغلبيّة البرلمانية وعلى تحديد صلاحيات رأسي السلطة التنفيذيّة. المصالح أكثر من المفاسد النهضة في الواجهة بإرادتها، فالاختيار الذاتي ماثلٌ في تفاصيل الموقف من الأزمة الراهنة وفي التعويل على الشراكة مع الشاهد ومشروعه السياسي المرتقب بديلا عن التوافق مع السبسي والنداء، فقد كشفت الرسالة المسربّة وتصريحات بعض القياديين خيارا آخر كان يْمكن أن تذهب فيه النهضة، ولكنّه خيار أقليّ سقط أمام إرادة الأغلبيّة. ومن اللافت أنّ الرأي الأقليّ في النهضة يلتقي موضوعيا مع اطروحة الآخرين من خصوم النهضة، وأساسا الباجي قائد السبسي والنداء، الذين بدؤوا معارضتها لا بغاية إقصائها، بل لدفعها الى التنازل لفائدة الخيار الثاني في التعاطي مع الأزمة السياسيّة، أي التخلّي عن الشاهد والمحافظة على التوافق مع السبسي. الخيار الإرادي يحتاج دونما شكّ الى بعض الوقت حتّى يتوضّح حصاده، ومن المؤكّد أنّ تقدير الموقف النهضاوي كان مرتكزا على وفرة عزيرة للمصالح والفوائد وغياب للمحاذير والمخاوف (المهالك والمفاسد)، وإلاّ ما كان لغالبية أعضاء مجلس شورى لحزب ذي مرجعيّة دينيّة يُسقطون من حسابهم القاعدة الفقهيّة المعلومة في أنّ «درء المفاسد أولى من جلب المصالح».