عادت النخبة السياسيّة، وهي تتلمّس مسارب للخروج من الأزمة، إلى ممارسة نوع خطير من الممارسات يرتهنُ إلى التسريبات وجس النبض والإمعان في التعمية والتعويل على الصفقات وتوافقات الكواليس. تونس (الشروق) التسريبات الأخيرة حول التحوير الوزاري جاءت متزامنة من حيث التوقيت، وهي أيضا مُتشابهة في ألفاظها ومضامينها، وما لم تُبادر الحكومة بتكذيبها أو نفيها فهي تتحوَّل إلى فعل سياسيّ ثابت وخطير في نفس الوقت لأنّ التسريب بتلك الطريقة وإن يفتح لأصحابه طريقا لتحقيق مكاسب فهو عامل إضافي لمزيد إرباك العمل الحكومي وتعطيله. هذه الممارسة تعكسُ في جوهرها حالة ارتباك وخوف، وربّما رهبة، من الخطوة المزمع تنفيذها بمناهج كسر العظام ولي الأذرع والاصطفافات المستنبتة من واقع متأزّم أصلا تكادُ تنعدم فيه عناصر الشفافيّة والثقة. إنّ تسريبات التحوير الوزاري، في مثل هذا التوقيت، تُؤكّد أنّ أطرافهُ مقرّة العزم على المضي قُدما في تمرير الصورة الجديدة الناشئة للمشهد السياسي وستُثبّت دونما شكّ المعادلات الطارئة منذ اندلاع الازمة السياسيّة نهاية شهر ماي الفارط، وهذا ما سيطرحُ عديد الأسئلة منها خاصّة قدرة هذا التحوير على فرض الأمر الواقع والتخفيف من واقع تلك الأزمة. لا شيء ثابتا الآن على الأرض، فالتحوّلات ما تزال منتظرة، والأطراف المتصارعة على الحكم لن تتخلَّى عن مناوراتها والتوازنات البرلمانيّة لم تستقرّ بعدُ، وهذا ما يجعلُ مجرّد التفكير في التحوير الوزاري من قبيل المغامرة المحفوفة بمحاذير فعليّة في أن يكون تفعيله سببا في مزيد تعقيد الحياة الوطنيّة. سياق سياسي وتاريخي ومحاذير ينطلقُ الحديث عن التحوير الوزاري بجملة من المحاذير، ودونما شكّ فإنّ تنفيذه، في مثل هذه الأجواء المشحونة، سيعمّق من تلك المحاذير وسيُضاعف من خطورة المآلات التي قد ينتهي إليها في علاقة باستقرار الوضع وانسجام مؤسّسات الحكم في القصبة وقرطاج وباردو، ناهيك عما قد يُحدثه من ارتباك للمسار الديمقراطي الانتقالي وتهديد للموعد الانتخابي المنتظر نهاية 2019. إنّ ملف التحوير الوزاري لا يُمكن تناوله مطلقا بعيدا عن السياق السياسي والتاريخي الذي تمرّ به البلاد والمتّسم بخاصيّات حرجة ودقيقة، من أبرزها: 1 - أوّلا، أنّه سياق مرتبط بمرحلة انتقاليّة ما تزال مستمرّة ولم تُنه كلّ مستلزماتها وشروطها، والأدلة على ذلك كثيرة، منها أنّ العديد من المؤسسات الدستوريّة لم يتمّ تركيزها بعد ومن أهمّها المحكمة الدستوريّة وأنّ العدالة الانتقالية لم تُستكمل بل دخلت منعرجا خطيرا قد يدفع الى عودة الأحقاد والفتن وقطع الطريق أمام الهدف الحضاري في تحقيق المصالحة الوطنيّة الشاملة. 2 - ثانيا، أنّه سياق مفتوح على موعد انتخابي حاسم نهاية العام المقبل، فانتخابات أكتوبر 2019 هي أوّل اختبار حقيقي وعملي للتداول السلمي على السلطة وفق ضوابط دستور الثورة، ومع التأكيد على المكانة المركزيّة والمحوريّة للمحكمة الدستوريّة في تأمين ذلك الموعد الانتخابي من كلّ الانحرافات والمزالق فإنّ الوضعيّة الراهنة للهيئة العليا المستقلّة للانتخابات صعبة جدًّا وعلى غاية من التعقيد ولا تبعثُ ابدا على الطمأنينة تجاه العمليّة الانتخابيّة. 3 - أمّا ثالث الخاصيّات فهو واقع الأزمة السياسيّة الماثلة وخاصة ما بلغته العلاقة بين رأسي السلطة التنفيذية في غضونها من توتُّر وعدم انسجام. الكثير من المتابعين باتوا يتحدّثون عن بدايات تعثّر فعليّة للمسار الديمقراطي، فهذه التطورات المتسارعة نقلتنا الى مشهد حزبي وبرلماني مختلف تماما عن المشهد الذي انتهت اليه انتخابات 2014 وهو أمر مانع للكثير من الأفعال السياسيّة ومانع أيضا إلى عقد التحالفات، خاصة تلك التي تجمعُ رئيس الحكومة بصفته في الدولة وأحزابا سياسيّة، فليس من الأعراف الديمقراطية أن يشرع «رئيس الحكومة الفرد» في التفاوض حول بناء تشكيل حكومي وصياغة تحالفات استراتيجية بعيدة المدى وضبط ترتيبات ما بعد 2019. حسابات ظرفيّة ضيّقة وردود أفعال التحوير الوزاري هذه المرّة لن يكون يسيرا، وسط انقلاب الكثير من المعادلات وكثرة الحسابات وتباعد الأجندات وطغيان الأهواء الشخصيّة والفئويّة وغياب عنصر التوافق الواسع والوحدة الوطنيّة. وهناك تخوّف من أن تؤدي مساعي تنفيذ التحوير الوزاري الى المزيد من اللخبطة والتعثّر لتجربة تونسيّة رائدة، فالحكومة التي ستتولى مهامها الى حين إجراء الانتخابات القادمة يجب أن تكون بمواصفات وضوابط محل توافق كلّ الفرقاء، وإلاّ سينفتحُ الباب لاحقا إلى ردود أفعال منتظرة من قبيل الدعوة الى المقاطعة أو التشكيك لاحقا في نتائجها، وستكون ردود الأفعال تلك مقبولة وسيجد أصحابها الكثير من المبرّرات لو كانت الحكومة القادمة مرتكزة الى توازنات الراهن المتأزّم، فمن الثابت أنّه لن يقبل أي طرف أن تجري الانتخابات القادمة تحت إشراف حكومة سياسيّة مبنية على المحاصصة والترضيات والولاءات الضيّقة ونتاج عمليّة سمسرة سياسيّة وسياحة برلمانية واستغلال المواقع في الدولة لتصفية الحسابات وتغيير المعادلات وموازين القوى وقلبها رأسا على عقب. أن لا يكون التحوير الوزاري مرتكزا الى توافق وطني واسع تشارك فيه كلّ الأحزاب والقوى الوطنية الفاعلة على قاعدة تشكيل «حكومة وحدة وطنية مستقلّة تنشغل بإنقاذ البلاد اقتصاديا واجتماعيا ولا تحوم حولها أيّة شبهات انخراط من قريب أو بعيد في السباق الانتخابي القادم وترتيبات ما بعد 2019»، فذلك سيكون ضربا من العبث والتلاعب بمستقبل العملية السياسية الديمقراطية في البلاد وذهابا بها إلى المجهول.