عبد الجليل عبد ربه منذ عاصفة ما يسمى ب «الربيع العربي» عاش المجتمع التونسي تغييرات عميقة ومحاولات مختلفة لتغيير نمطه بفتح حدود البلاد وترابها لكل من هبّ ودبّ من دعاة و«شيوخ دين» وصوليين وفاسدين وناشطين سياسيين و«حقوقيين» كانوا منتشرين في مختلف عواصم العالم يعملون ضد مصلحة البلاد وسمعتها بادعاء البحث عن الديمقراطية والحريات ويتقاضون مقابل ذلك امتيازات كبيرة حتى وصل الامر بهم الى بعث قناة تلفزية بالكامل ويدعون أنهم كانوا يناضلون و«يجاهدون» في سبيل الديمقراطية والحرية والبقية تدّعي الجهاد من أجل الاسلام. أما المجموعة الأخرى فهي مجموعة الفساد السياسي والمالي والأخلاقي. فقد تمتع الآلاف بالعفو التشريعي العام ومنهم السارق والمجرم والمنحرف والجاسوس... وكذلك جانب من السياسيين وأصحاب رأس المال من المنتمين الى النظام القديم بمن في ذلك نقابيون استغلوا الفرصة للتموقع والظهور في مظهر المدافع عن مصلحة العامل والوطن. ولكنهم في الحقيقة يخدمون مثل البقية أغراضا شخصية وجهات أخرى. ونتيجة لكل هذا تغيّر الخطاب الديني. وأصبح يدعو الى الجهاد والخلافة الاسلامية باستعمال العنف لإصلاح المجتمع الكافر حسب شيوخهم. وأما المناضلون السياسيون الحقوقيون والناشطون فإنهم نشطوا في هدم المؤسسات الدستورية والاقتصادية القائمة يدعون الى نظام سياسي فيه «ديمقراطية وكرامة». فكان دستورهم الذي نادوا به وصادقوا عليه في مجلسهم التأسيسي كارثة على النظام السياسي للدولة وعلى المجتمع وبانت عيوبه لاحقا لما تفتت السلطة وانخرم النظام وعمّت الفوضى الخنّاقة التي يبحثون عنها وتلاشت شعاراتهم الهدّامة بين تفشي ظواهر الفساد والرشوة والمحسوبية والولاء للجهات الأجنبية وتدهور الميدان الاقتصادي والاجتماعي. وللخروج من المأزق ولتبرير فشلهم فإنهم يحمّلون كل المصائب التي لحقت البلاد بجميع أشكالها على حساب النظام السابق قبل 14 جانفي 2011. مع اقتناعهم الكامل بأن نظرياتهم قد تعدّاها الزمان منذ عقود ولم تعد صالحة في الوقت الحاضر ومع ذلك جعلوا من بعض القضايا السياسية او الاقتصادية او الاجتماعية «حمارهم» اليومي يركبون عليه قصد شراء ودّ المواطنين في حين ان المواطن العادي السوي يعلم انهم من تسببوا في كوارث الحوض المنجمي ومشكل الفسفاط بالاضراب والاحتجاجات وكذلك البترول والسياحة والغاز... وللعلم فإن نتيجة تعطيل الانتاج والعمل العادي لهذه القطاعات كان سببا فيما يفوق 15000 مليار من الخسارة في حوالي سبع سنوات وهذا المبلغ وحده كان كافيا لتغطية كل نفقات الدولة ولا تحتاج بعد ذلك الى الاقتراض من هنا وهناك بشروط مجحفة أحيانا. وفي خضمّ كل هذا نشط السياسيون داخل الاحزاب ومجلس نواب الشعب في ما يعرف بالسياحة الحزبية والبرلمانية وأصبحت الساحة عبارة عن «سوق ودلال» او مسرحية متعددة الفقرات فعشنا مهازل وفضائح لم تشهدها حتى بعض الدول المتخلفة والتي تحسب تونس مثالا يحتذى في التطوّر والحداثة والحضارة والأخلاق فانقلبت الآية نتيجة لسلوك هؤلاء «الزعماء» والقادة السياسيين وأصبحت صورة تونس في العالم لا تشرف ما بناه بورقيبة ورفاقه من صورة ناصعة لبلادنا عبر سياسة خارجية جعلت منها قدوة في المحافل الدولية ووجهة ملايين السياح من مختلف أقطار العالم. وزاد هذا السلوك الخطير في ضبابية المشهد السياسي وفقدان الثقة بين المواطن والمسؤول وأصبحت «الانقلابات» داخل الاحزاب حديث الشارع ومشاهد جلسات مجلس النواب والتي يتخللها احيانا حتى «الملاكمة» والشتم والسب مقرفة وتسيء الى هيبة المؤسسة الدستورية والى تلك المؤسسة التي استشهد من أجلها تونسيون في 8 و9 أفريل 1938 منادين: «برلمان تونسي» وإذا بهم يستخفون بمسؤولياتهم ولم يحترموا أرواح الزعماء والشخصيات الوطنية التي مرّت من ذلك المكان من: الحبيب بورقيبة والمنجي سليم والطيب المهيري والصادق المقدّم وجلولي فارس ومحمود المسعدي وأحمد بن صالح ومحمد المصمودي والهادي نويرة والحبيب بولعراس وعلي البلهوان والباهي الادغم والرشيد ادريس.. إنهم حاولوا تقليد ما يجري أحيانا... في بعض برلمانات الدول المتقدمة لكنهم تناسوا أن مؤسسات هذه الدول تعمل بكل اجتهاد وجدّ وتوفر العدل والنظام موجود حتى أن بعض هذه الدول مثل بلجيكا بقيت أشهرا أو سنوات دون رئيس حكومة و دواليب الدولة كانت تسير بانتظام. أما نحن ومع وجود رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة ورئيس مجلس النواب فإن الساحة السياسية مضطربة والاقتصاد متدهور والانتاجية متردية والأمن غير مستقر. ودعّم هؤلاء أنفسهم بهيئات قيل إنها دستورية ومستقلة خدمة للتحول الديمقراطي المزعوم فإذا بها تعجز حتى في تحقيق الانسجام بين أعضائها وأصبحت خلافاتهم علانية ووصلت حد الفضائح وحادوا عما يدّعوه من مبادئ وأهداف. فهذه هيئة سميت ب «الحقيقة والكرامة» أساءت الى تاريخ البلاد وزعمائها وشهداء ومناضلي الحركة الوطنية وبثت الفتنة والأحقاد بين الجهات والأجيال وحتى العائلات وترأستها امرأة معروفة بانحيازها وتعاطفها مع جهات معنية. ولم تحظ بالمصداقية والتوافق. وهذه لجنة للانتخابات هدفها متابعة وتسيير العمليات الانتخابية بكل نزاهة وشفافية فإذا بها تغرق في الخلافات واستقالات بعض أعضائها ورؤسائها ولم تقوَ على حل مشاكلها الداخلية فكيف يمكنها إقناع الناس بأنها نجحت في اجراء انتخابات تستجيب لتطلعات المواطنين والقوى السياسية النزيهة؟ أما هيئة الاتصال السمعي والبصري ورغم محاولاتها فإنها لم تتوصل الى الحدّ من الفوضى والتسيّب الذي عمّ هذا القطاع وركوب «أشباه الصحفيين» على أشهر المحطات الاذاعية والتلفزية وبعض الصحف سعيا الى خدمة أغراض وجهات معيّنة وتقديم برامج سخيفة وتافهة يغلب عليها التقليد الأعمى بعيدا عن عاداتنا وتقاليدنا وفيها سوء أخلاق وقلة حياء. وحادت في أغلبها عن رسالتها النبيلة. وهي السلطة الأولى أو الرابعة. ومن المفروض أن ترتقي بالذوق العام وترسّخ الانتماء الى الوطن وتوجه الرأي العام الى ما يخدم البلاد والعباد. ولا تسأل عن علاقة أغلب التونسيين بوسائل التواصل الاجتماعي فأدمنوا عليها واستغلوها في مزيد خلق الفوضى والتوتر والفضائح. ولإحكام «المناعة» والاستقلالية ومبدأ «بيضي وفرّخي» فإن الجماعة في مجلس النواب كما في هذه الهيئات حصّنوا أنفسهم بقانون الحصانة الذي أصبح يحمي كل مخالف ومتطاول على القانون والأخلاق السياسية والاجتماعية. وبطبيعة الحال خلّفت هذه الحالة تأثيرا مباشرا على سلوك كافة فئات المجتمع وأجياله. وأصبحت تصرفات جانب هام من المواطنين غريبة وشاذة أحيانا وخاصة لدى الشباب الذي اتجه بعضه الى «الحرقة» أو «الجهاد» في بؤر التوتر. وانخرط البعض الآخر من المواطنين في دائرة الفساد والتحيّل والرشوة والإدمان على المخدرات والسرقة والاعتداءات الجنسية.. أما العامل أو الموظف وخاصة بالمؤسسات العمومية لم يعد له نفس الاجتهاد والجدية في العمل ومال بعضهم الى الكسل والتهاون والتلاعب بمصالح الناس. وحتى المباريات الرياضية أصبحت مجالا لتصفية الحسابات واستعمال العنف حتى بين أنصار الفريق الواحد. ولم يعد الدفاع عن «مريول» الفريق الأم كما كان سابقا. بل أصبح اللاعب يمارس «السياحة الرياضية» بحثا عن المنفعة الشخصية. وحتى رؤساء الجمعيات والمسؤولين عن تأطير الجماهير وتربيتها نراهم يتسابقون في تبادل التهم بتصريحات نارية أغربها ما سمعته أخيرا من رئيس جمعية كبرى عبر إحدى المحطات الاذاعية الذي يفتخر بوضع جهته وجمعيته في عهد الاستعمار. وهو حسب رأيه أحسن منه في عهد الاستقلال!! قس على ذلك الوضع في الصحة والتربية والثقافة والذي عرف انحرافا عن أهدافه وغاياته هذه محصّلة «ثورة الياسمين» او القرنفل والتي تحوّلت الى دمار شامل على البلاد مسّت كل الميادين والقطاعات والجماعة جرفها التيّار وهي تقول العام صابة. ومن خلال هذه الغيوم والعواصف أرجو أن يهتدي ساسة البلاد الى الطريق السليم والعمل سويا بكل جدية ووطنية للخروج من هذا الوضع الصعب والسيئ.