منذ بداية مشاورات قرطاج 2 مطلع العام الجاري، لم تشهد الساحة السياسية غير الصراعات العدائية بدل صراعات التنافس السياسي الحقيقي والطبيعي وهو ما يهدد في صورة تواصله الانتقال الديمقراطي والحياة السياسية بشكل عام. تونس - الشروق - رغم اجراء تحوير وزاري إلا ان السياسيين لم ينجحوا إلى حد الآن في تجاوز الازمة التي تلقي بظلالها على البلاد منذ بداية العام وتحديدا منذ انطلاق مشاورات قرطاج 2 التي وقع تعليقها في ماي الماضي. عدائية بدل التنافس أزمة تجسدت في صراعات سياسية جمعت مختلف الاطراف وكانت غاية الجميع منها ضمان تموقع افضل في المشهد السياسي استعدادا لانتخابات 2019 . غير ان ذلك لم يكن - بشهادة كل المتابعين- عبر التنافس السياسي النزيه الذي يستند الى اختلاف الرؤى والافكار والحلول البديلة لتحسين الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية وخدمة مصلحة البلاد والمواطن بل كان ذلك آخر اهتمامات السياسيين. ليتحول بذلك هذا التنافس الى عدائية مفرطة تهدف الى الإطاحة بالآخر بكل الطرق الممكنة بما في ذلك التحركات التي لا تحترم اخلاقيات العمل السياسي السليم وتبادل الاتهامات وتشويه الآخر وهو ما لوحظ خاصة في الاسابيع الاخيرة. تشويه السياسة كل ذلك فسح المجال امام تبادل الاتهامات والتهديدات ونزل احيانا بلغة الخطاب السياسي الى ما دون المتعارف عليه وواصل كل طرف سياسة الهروب الى الامام دون تقديم تنازلات . وهو ما لوحظ مثلا في معركة رئيس الحكومة يوسف الشاهد مع حزبه نداء تونس وكذلك من خلال سوء التفاهم الذي اصبح يسود علاقة رئيس الجمهورية برئيس الحكومة وأيضا انقطاع حبل التوافق بين النهضة من جهة ورئيس الجمهورية وحزب النداء من جهة اخرى. وتخللت كل ذلك الازمة التي عاشها ولا يزال الحزب الحاكم نداء تونس وايضا موجة استقالات النواب وتغيير كتلهم البرلمانية فضلا عن تقلبات اخرى شملت عديد العلاقات بين مختلف الاطراف الفاعلة من احزاب ومنظمات وطنية وغيرها. ومازاد الطين بلة هو حالة الفوضى التي عمت طريقة تسيير البلاد جراء نظام سياسي ضعيف ادى الى عدم وجود طرف وحيد يتحكم بزمام الامور ويمكن محاسبته. تضرر الدولة والمواطن وسط كل ذلك ضاعت اولويات البلاد وهو ما تجسد خاصة على الصعيد الاقتصادي الذي بلغت اغلب ارقامه مستويات دنيا غير مسبوقة وعلى الصعيد المالي بعد ان اصبحت الدولة على شفا حفرة الافلاس وضاعت مصالح المواطن على الصعيد الاجتماعي والمعيشي بحكم تنامي الفقر والبطالة والجريمة وارتفاع الاسعار واحتكار السلع مع تواصل تنامي الفساد والتهريب وتراجع الخدمات العمومية وتضرر صورة تونس في الخارج. إضعاف الحياة السياسية أما على المستوى السياسي فقد فقدت البلاد ابسط تقاليد العمل السياسي السليم. فرغم وفرة عدد الاحزاب الا ان الساحة السياسية والحزبية تبدو مفتقرة اليوم لاحزاب حقيقية قادرة على توفير حياة سياسية تشد اليها الانظار وتستقطب الناس نحو الممارسة السياسية. فلا افكار او تصورات لدى الاحزاب ولا حراك سياسيا للاحزاب في الجهات ولا اهتمام بالشباب لتمكينه من أخذ مشعل المبادرة السياسية مستقبلا ولا تشريك حقيقيا للمواطن في الحياة العامة عبر تكوينه وتاطيره سياسيا حتى لا ينفر من المشاركة السياسية خاصة بمناسبة الانتخابات. واكثر من ذلك اصبحت الاحزاب غير مبالية بالعمل الحزبي الداخلي القائم على الانتظام الهيكلي وعلى التطور المضموني المتواصل وعلى خلق ديناميكية سياسية في البلاد وعلى التعبئة وعلى الاجتماعات الجماهيرية في الجهات. وهو ما يطرح مخاوف عديدة في نظر المتابعين حول انجاح انتخابات 2019 في ظل هذا الوضع خصوصا ان الانتخابات البلدية في ماي الماضي كانت مناسبة لتنبيه السياسيين من عزوف المواطن عن الانتخابات. طي الصفحة رغم كل ذلك مازالت الطبقة السياسية الى حد اليوم تمارس السلوكات نفسها: صراعات التموقع والعداء الشديد تجاه الآخر وعدم الاهتمام بالشأن العام وبمشاغل المواطن. اليوم وبعد اجراء التحوير الوزاري وبعد ان ظهر شيء من المرونة والميل نحو التهدئة لدى اغلب الاطراف (رئيس الجمهورية - رئيس الحكومة - البرلمان) ينصح المختصون بان يقع استغلال ذلك من قبل السياسيين لطي صفحة الماضي وفتح صفحة جديدة قائمة على الجلوس الى طاولة واحدة وعرض مختلف الاخلالات والاعتراف بالاخطاء والتنبيه من التقلبات المستقبلية وابرام اتفاق في ما بينهم حول التهدئة العامة ومزيد تقديم تنازلات من كل الاطراف خدمة للمصلحة الوطنية ولإعادة الروح للحياة السياسية الطبيعية القائمة على التنافس الحزبي النزيه وللمحافظة على نجاح التجربة الانتقالية الديمقراطية. أما إذا ما تواصل الامر على ما هو عليه فان مصير كل الاطراف سيكون « الاحتراق» السياسي في المستقبل، في انتظار ظهور طبقة سياسية جديدة قد تُخرج الحياة السياسية من وضعها الحالي المتردي.