هذه كلمة تونسية مائة بالمائة للتعبير عن وضع معقّد ومحيّر يعسر الخروج منه. اخترع التونسيون كلمة «الوحلة» لعلمهم أنهم الأكثر مهارة في العالم لوضع أنفسهم في «الوحلات». الإضراب العام للوظيفة العمومية الذي قرّره الاتحاد العام التونسي للشغل ليوم غد الخميس وحلة بلا شك. لأن كلا الطرفين في المعادلة له سببه وكلاهما له الحقّ فيما قام به. الاتحاد له سببه حين دعا إلى الإضراب. والحكومة لها سببها حين رفضت الزيادة التي طالب بها الاتحاد. الاتحاد على صواب حين يذكّر أن دوره الدفاع عن أوضاع منخرطيه. وهو كذلك على حق حين يقول إن المقدرة الشرائية للموظفين قد تراجعت بشكل ملحوظ يفرض هذه الزيادة في أجورهم. لكن الحكومة هي الأخرى على صواب حين تجيب أنها لا تستطيع تقديم الزيادة المطلوبة لأنها لا تملك الأموال اللازمة لذلك. اللّهم إذا قبلت بتعميق عجز الميزانية التي هي في حالة صعبة أصلا. الاتحاد على حق حين يقول إن البلاد محكومة من وراء البحار. ولكن، لو نزعنا الغلاف الشعبوي عن هذا القول لوجدنا أن الحقيقة أكثر تشعبا مما قد يبدو. فلا يوسف الشاهد ولا حكومته ولا الحكومات التي سبقته بمسؤولة عن الاختيارات الاقتصادية الكبرى للبلاد. إنه نظام عالمي ومن التجنّي الإدّعاء أنه كان لتونس اختيارات أخرى غير الاقتراض والالتجاء إلى المؤسسات المالية العالمية. اليوم تقف هذه المؤسسات لتشير بوضوح إلى المخاطر الكبيرة التي قد تنجر عن زيادة الأجور، سيّما بعد إعادة تقييمها لنسبة التضخم نحو ارتفاع يصل إلى 8٫1 ٪، وإلى كُتلة أجور الموظفين التي وصلت إلى 15 ٪ من اجمالي الناتج المحلي وهو ما يُمثّل مستوى غير مسبوق ورقما قياسيا في العالم. ولكن ما العمل؟ هل يرضى الاتحاد العام التونسي للشغل بالوقوف غير مكترث أمام ما وصل إليه وضع منخرطيه من تردّ ومن افقار متواصل؟ ماذا سيكون إذن دوره إذا لم يتحرّك للدفاع عن قواعده الشعبية؟ ماذا سيكون موقفه حين يواجه انتقاد منخرطيه الذين حمّلوه المسؤولية التاريخية التي ارتضاها الاتحاد العام التونسي للشغل لنفسه منذ الشرارة الأولى للكفاح الوطني من أجل الاستقلال والكرامة؟ الاتحاد أجاب واختار الاضراب العام الذي يُمثّل في لغة النضال النقابي آخر الأسلحة التي يقع الالتجاء إليها حين تُستنفد كلّ سُبل الحوار والتفاوض. لقد تعلمنا من تجربتنا في هذه البلاد أنّه من السهل بدء اضراب عام لكنّ من الصعب دائما إدارته، وما تزال ذاكرتنا تحتفظ بأكثر من مثال عن الانزلاقات الخطيرة التي كثيرا ما تؤدّي إليها الاضرابات العامة سيّما، والحالة تلك، حين تكون البلاد في وضع من الانهاك والاستنزاف. ألم يكن من الأجدى التشبث بالحوار بكل الوسائل والاهتداء بأي طريقة إلى حلّ يمنع من الوصول إلى هذا الخيار الأقصى؟ الخوف كل الخوف أن يكون وراء ما وصلنا إليه اليوم من وضع متأزم بعد أن كدنا نتنفس الصعداء اثر الموافقة على التحوير الحكومي، أن تكون هناك أمزجة متنافرة وحسابات أخرى مخفية تحجب الحلول الحقيقية التي تُخرج البلاد من مأزقها الاقتصادي والاجتماعي الحالي؟ لماذا لا نُصارح شعبنا فنقول له ان الزيادة في الأجور وان كانت حتمية فهي لا تحل المشكلة ما دام لا يقابلها انتاج كاف؟ لماذا لا نصارح شعبنا فنقول انّنا ما نزال نبحث عن الحدّ الأدنى المطلوب لمستوى انتاجنا من الفسفاط الذي يُمثّل مصدرنا الطبيعي الأساسي؟ ولماذا لا نقول ان نفس ذات الاضطرابات الاجتماعية هي التي تعطّل الزيادة في انتاجنا من البترول؟ ان هذين المادتين لو يسترجع مستوى انتاجهما ما قبل الثورة لكان من اليسير اجراء الزيادات المطلوبة والحدّ من تدهور المقدرة الشرائية وتحسين مستوى تغطية ميزاننا التجاري؟ من ناحية أخرى لماذا تواصل الحكومة تغافلها عن معالجة التضخم المصطنع الذي يفرضه المضاربون لإنهاك المقدرة الشرائية للمواطن بزيادات متواصلة وغير مبررة بدعوى «سقوط» الدينار، وهم بذلك يملئون جيوبهم على حساب عيش المواطن؟ أما حان الوقت أن تقوم الحكومة بدورها في المراقبة الصارمة على انهاء تغول المضاربين ووضع حدّ للمهربين الذين استثروا بصفة صارخة على حساب الدولة والمواطن معا؟ نعم، نعتقد أنه مازال بالإمكان تجنب خيار الاضراب العام. وان لم يكن ممكنا فلا حاجة لنا في التصعيد الذي بدأت بوادره تظهر لتعيدنا إلى ذكريات أليمة. نعم، نعتقد أن رجلا في وطنية نورالدين الطبوبي وفي إدراكه العالي للمسؤولية لن يقبل بانزلاق منظمة الاتحاد العام التونسي للشغل نحو مخاطر المزايدات التي لئن تواصلت ستؤدي لمحالة بالبلاد إلى المجهول وسترهن مشروعها الديمقراطي وتعيدنا إلى مربّع الاضطرابات والمواجهات التي تسبب شروخا في وحدة البلاد وتماسك شعبها. كُلّنا مطالبون اليوم بتغليب العقل وتقديم المصلحة الوطنية والتعجيل بالخروج من هذه «الوحلة».