في خطوة مفاجئة أدهشت الجميع بمن فيهم سياسيو وعسكريو الولاياتالمتحدةالأمريكية أنفسهم، قرّر الرئيس دونالد ترومب سحب قوات بلاده من الأراضي السورية بدعوى أن هذه الأخيرة حققت هدفها الذي جاءت من أجله والمتمثل في الانتصار على «داعش». ومما يجعل قرار الرئيس الأمريكي مدعاة للاستغراب أنّه منذ أسبوع فقط كان مبعوث الولاياتالمتحدة للتحالف الدولي ضدّ «داعش» قد أكد علنا أن «القضاء على الدولة الإسلامية سيستغرق وقتا أطول بكثير»، موضّحا في ذات الوقت أن «هناك خلايا سريّة ولا أحد ساذج لحدّ الاعتقاد أنها ستختفي بين عشيّة وضحاها». ما الذي تغير إذن خلال أسبوع حتى يتخذ الرئيس الأمريكي القرار المعاكس تماما لما ذهب إليه مبعوث التحالف ولكل ما يتوقعه المسؤولون العسكريون الأمريكيون وكذلك القادة السياسيون في أمريكا وفي أوروبا؟ الجواب صعب إذا اعتبرنا ما عوّد عليه الرئيس الأمريكي العالم من نوبات مزاجيّة ومقرّرات ارتجالية. غير أن الكثير من الملاحظين يرون في قرار ترومب سحب القوات الأمريكية من سوريا بصورة مستعجلة يندرج ضمن مناوراته السياسية استعدادا لانتخابات 2020 الرئاسية، إذ هو يريد أن يظهر في صورة الذي يفي بكامل وعوده الانتخابية والتي من أبرزها إرجاع الألفي جندي الأمريكي المتواجدين على الأرض السورية إلى ديارهم. ومهما كانت الأسباب والدواعي والحسابات التي دفعت بالرئيس الأمريكي إلى اتخاذ قراره فإن الأهم يبقى متعلقا بالأثر الذي سيتركه على الواقع السوري خصوصا وتداعياته على الأوضاع التي تعيشها المنطقة منذ حوالي سبع سنوات عموما. فإذا اعتبرنا أن الأزمة السوريّة وما تبعها من ظهور للوحش الداعشي قد حوّلا بلاد الشام إلى حلبة صراع مفتوح بين القوى الكبرى في العالم وفي المنطقة، فإن المستفيد الأول مبدئيا هي تركيا التي ستجد أيديها مطلوقة لشنّ الهجوم العسكري التي تتوعد به منذ أسابيع على شمال سوريا لضرب قوات سوريا الديمقراطية ذات الغالبية الكردية والتي ترى فيها تركيا استئنافا لما تعتبره حربا انفصالية كردية. لكن هذا الحساب التركي قد يتبيّن سريعا أنه حساب خاطئ إذا ما تحالفت هذه القوات مع النظام السوري وتحوّلت إلى شوكة جديدة في وجه الجيش التركي. والحقيقة أن الانسحاب العسكري الأمريكي من سوريا يأتي ليؤكد مرة أخرى صحة القاعدة التي تقول إنه ليست هناك صداقات دائمة ولا عداوات دائمة في العلاقات بين الدول وإنما فقط مصالح دائمة تمليها ظروف متغيرة، وإن أول من يكرّس هذه القاعدة هم الأمريكيون حتى وإن بدوا غير منطقيين، انفراديين وغير متناسقين. وإنها ليست المرة الأولى التي ينسحب فيها الجيش الأمريكي بهذه الطريقة المفاجئة أو المتسرّعة غير عابئ بما قد يتبع قراره من تداعيات على الأرض التي دخلها عنوة. فلقد انسحب منذ سبع سنوات من العراق نحو الكويت بنفس الإخراج المسرحي الذي يخرج به اليوم من سوريا وبنفس الادعاء بأنه أنهى المهمة. ومثل الأمس يترك الأمريكيون حلفاءهم من بريطانيين وفرنسيين في التسلل غير عابئين بموقفهم من قرار ترومب الذي يرون فيه ارتجالا ومغالطة واضحة. والعرب في كل هذا؟ لقد أُخرجوا بجهلهم وتكرارهم لنفس الأخطاء من جغرافيتهم العربية. وخلاصة القول إن «داعش» إن انهزمت فإن هزيمتها تمت على يد السوريين الذين دفعوا الثمن الأغلى بإعانة روسيا وإيران اللذين دخلا، ربما إلى الأبد، تلك الجغرافيا العربية. ويبقى الدرس المستفاد أن إرادة الشعوب لا تقهرها الجيوش الأجنبية مهما عظمت قوتها. اليوم تنسحب الجيوش الأمريكية من سوريا. تغيّرت الجغرافيا ولا بدّ أن التاريخ سيتغيّر وأن سوريا الغد لن تكون سوريا ما قبل 2011.