كثيرون كانوا يعوّلون على الحديث الأخير لرئيس الحكومة على أنّه سيقدّم إجابات واضحة ودقيقة تحسم أساسا في علاقته بحزبه نداء تونس، ولكنّ الحديث انتهى الى مزيد من الأسئلة حول حقيقة التوجُّه لتأسيس حزب جديد والجديّة في الابتعاد نهائيا عن أطروحة افتكاك النداء والتعويل عليه في قادم المحطات. عدم قطع شعرة معاوية لا يبدو رئيس الحكومة صارما في قطع شعرة معاوية التي ما تزال تربطه بحزبه، فهو مجمّد، ولا برئيس الجمهورية، فهو يحترمه رغم تصريحه بأنّ العلاقة معه تغيّرت، وهذا ما يدفع بقدر جديد من الغموض والالتباس، هل بالإمكان أن ينتصر الشاهد في معركة افتكاك النداء؟ وهل تنجح الوساطات المتعدّدة في إعادته الى «حضن سي الباجي»؟ كما أنّ الدعوة التي وجَّهها الشاهد للدساترة للالتحاق بما أسماه «ديناميكية تجميع العائلة الوسطيّة التقدميّة» تُثير أكثر من نقطة استفهام حول مدى استعداد هؤلاء، أي الدساترة، لتجاوز واقع التشتّت والتخلي عن مشاريعهم الحزبيّة الموجودة، وأساسا منها حزب المبادرة (كمال مرجان) والحزب الدستوري الحر (عبير موسي)، والاصطفاف خلف الشاهد كزعيم جديد قادر على استئناف مسار إحياء القوّة الكامنة في إرث دستوري ما يزال حيّا بأسسه الفكريّة واساسا بقواعده الشعبيّة والانتخابيّة المنتشرة في كامل جهات البلاد؟ ثمّ والأهم من ذلك كلّه، أي علاقة لمشروع التجميع الذي يعتزم الشاهد قيادته بسائر المشاريع التي تستهدفُ أيضا العائلة الوسطيّة التقدميّة والتي يُعلنها آخرون من أمثال أحمد نجيب الشابي والمهدي جمعة وياسين إبراهيم؟ رسائل لأكثر من طرف الواضح من خلال حديث رئيس الحكومة عدم حماسة لبناء شيء جديد وتخوّف من القطع نهائيا مع نداء تونس ورئيسه المؤسّس، فالمسكوت عنه يشي بالاكراهات الصعبة التي تُحيط بفكرة التأسيس، وما الحديث في جوهره إلاّ جس نبض في جميع الاتجاهات: 1- أوّلها الندائيون أنفسهم لمعرفة مدى رغبتهم في التخلّي عن القيادة الحالية واستدعاء الشاهد لتولّيها، فالحديث التلفزي جاء في سياق تواصل اندماج هياكل حزبي النداء والوطني الحر وانطلاق الإعداد لمؤتمر النداء وسبق بدء حملة توزيع الانخراطات بأيّام قليلة، وفي هذا الصدد يُمكن فهم حديث الشاهد عن مؤتمر على المقاس وتوصيفه بأنّه سيكون أشبه ما يكون ب»قطوس في شكارة». وفي نفس السياق يُمكن أن نفهم تواتر الاجتماعات التي يُشرف عليها سليم العزابي، الذراع اليُمنى للشاهد، في عدد من الجهات، وهي اجتماعات هدفها الرئيسي قياس وزن القواعد الندائيّة المستعدة للانسلاخ من «نداء حافظ وسليم» والانخراط في الديناميكية الجديدة للشاهد. 2- وثانيها للدساترة لتقييم مدى جاهزيتهم لترك خلافاتهم وتشتتهم جانبا ولمّ شملهم في الديناميكية الجديدة واستثمار كلّ ذلك لتحقيق عودة هامة لهم للمواقع القياديّة الأولى في الدولة بمناسبة الانتخابات القادمة. 3- وثالثها لسائر مكوّنات العائلة الوسطيّة التقدميّة في إمكانية رهانها على رئيس الحكومة الشاب لقيادة قوّة سياسية وانتخابيّة قادرة على تحقيق التوازن مع حركة النهضة، وهنا تتنزّل تأكيدات الشاهد بأنّه ليس نهضويا وأنّ مشروعه المعلن سيكون منافسا للنهضة وبإمكانه هزمها انتخابيا وعبر صناديق الاقتراع. مأزق العلاقة مع النهضة كما أنّ الحديث أوضح مأزقا فعليا مع «جمهور المشروع الجديد» في صلة بالعلاقة مع حركة النهضة، فكثير من هذا الجمهور رافضٌ لأيّ شكل من التنسيق أو التحالف مع الإسلاميّين، وهؤلاء قد لا يجدون ضالّتهم في المشروع الجديد بل يعلنون الشاهد صنيعة نهضويّة لمزيد تقسيم النداء وتشتيت العائلة الوسطية. فالشاهد الذي ينعمُ اليوم بالدعم المركزي والأساسي لحركة النهضة وبأفضالها عليه في البقاء في القصبة، كيف سيتحوّل غدا إلى منافس وخضم لها خارجٌ عن حساباتها وتكتيكاتها؟ مشروع التأسيس يقف إذن في انتظاريّة لردود الفعل، فعلى الرغم من الرصيد الذي يحوزه الشاهد بحكم موقعه في السلطة وسلسلة المواقف التي اتّخذها والتي تبدو للكثيرين شجاعة، فإنّ المشروع سيبقى في حاجة لقياس الجسم أو الماكينة الشعبيّة والانتخابيّة التي ستتحرّك خلفه. هو حديث مهم دونما شكّ، حرّك السواكن وأوضح دقّة الظرف والصعوبات التي تتحرّك فيها الحكومة والضغوطات المسلّطة عليها اجتماعيا واقتصاديا، ولكنّه حديث أظهر إلى السطح تردّدا وعدم حماسة وإحساساً بعمق المحاذير التي تُحيط بفكرة «التأسيس الجديد»، فالأمر لا يبدو يسيرا كما ظنّه البعض، والمشهد السياسي ما يزال يدور في الدائرة المُفرغة ويُراوح مكانه كما كان تقريبا قبل أكثر من نصف سنة.