إنّ ما وقع ويقع في السّاحة التّربويّة قد تجاوز كلّ درجات العبثيّة التي يمكن أن نتخيّلها. نحن أمام تقويض حقيقيّ لأسس المدرسة العموميّة التي بنت تونس والتي يمكن أن تعيد بناءها مستقبلا. ولأنّ السّاعة اليوم هي ساعة الحقيقة، ولأنه لم يعد هناك مجال لأنصاف المواقف والشعارات الباهتة التي "تقف على نفس المسافة من كافّة الأطراف"، فإنّنا نعلنها بكلّ صراحة: إنّ ما يجري جريمة في حقّ النّاشئة والمدرسة والوطن والمستقبل، ولم يعد هناك من مجال لحمله على حسن النّيّة أو حتّى على الشّخصنة والتّنطّع. إنّ الدّعوة إلى تكرار السيناريو الكارثي للثّلاثيّة الأولى خلال الثّلاثيّة الثّانية هي تقسيم فعليّ للشّعب التّونسيّ إلى فئتين. فئة يتمتّع أبناؤها بالتّعليم لأنّها قادرة على الدّفع لمؤسّسات التّعليم الخاصّ، وفئة اختارت المدرسة العموميّة أو اضطرّت إلى اختيارها بسبب فقرها، ولا تملك إلاّ أن تلاحظ بلا حول ولا قوّة حالة الضّياع التي يعيشها أبناؤها وأن ترافقهم فيها دون أيّ أفق ولا أمل. إنّنا في الجمعيّة التّونسيّة لجودة التّعليم نعتبر أنّ الدعوات إلى إعلاء صوت العقل وعدم العبث بأساس التّنمية وبجوهر السّلم الاجتماعيّة هي اليوم مجرّد صرخات في وادي، ونحن نتوجّه في المقابل مباشرة إلى الزّملاء المدرّسين ليسائلوا ضمائرهم الحيّة وعقيدتهم التّربويّة الصّميمة. هل يستحقّ النّضال من أجل أيّة مطالب مهما كانت مشروعيتها أن ندفع هذا الثّمن الفادح الذي سوف يسجّله علينا التّاريخ وسوف تحاسبنا عليه الأجيال؟ هل يمكن أن تزن المكاسب الهزيلة التي نطالب بها شيئا أمام القهر الذي يمكن أن يشعر به طفل أو مراهق مجتهد نحرمه من لذّة التّمتّع بتفوّقه، أو وليّ يقف عاجزا أمام مثل هذا المشهد؟ هل ندرك حقّا بذور الحقد واليأس التي نزرعها اليوم، أو نبتات التّكاسل واللاّمبالاة التي نرعاها، ونحن الذين زرعنا على مدى تاريخنا المشرّف بذور الأمل والإقدام... إنّ الحّلّ أمام هذا المأزق التّربويّ والحضاريّ الخطير لا يمكن أن يأتي من الوزارة، لأنّ هامش التّنازل أمامها محدود جدّا بالنّظر إلى الظّرف الدّقيق الذي تعرفه بلادنا، ولا يمكن أيضا أن يأتي من النّقابة لأنّها باتت أسيرة وهم القوّة الذي يسكنها، وأيّة قوّة يمكن أن تكون لأيّ هيكل، مهما علا شأنه، في بلد منهك يقف على مشارف الهاوية؟ إنّ الحلّ العاجل لا يمكن أن يأتي إلاّ من المدرّسين أنفسهم، لأنّهم برهنوا في كلّ المناسبات على قدرتهم على التّمييز بين المهمّ والأهمّ، وكانوا ولا يزالون حَمَلَةَ رسالة، وجنودا يواصلون كفاحهم من أجل التّنوير رغم كلّ الآلام، فالتّعليم لم يكن في يوم من الأيّام مهنةً، بل هو رسالة وعقيدة وكفاح. وبعد تجاوز هذه الأزمة، ونحن واثقون تماما من تجاوزها بفضل وعي المدرسين ولا شيء غيره، لا بدّ من تجاوز هذه الثّنائيّة العقيمة الموروثة: وزارة/نقابة التي كانت وبالا على منظومتنا التّربويّة، وإرساء مدوّنة سلوك الأسرة التّربويّة الموسّعة، وهو مشروعنا الذي نعمل عليه في الجمعيّة التّونسيّة لجودة التّعليم منذ سنوات.