ينبغي ان نلاحظ اننا نريد من الفقه معنى اعم من المذهب . فالفقه شيء والمذهب شيء اخر . وكل مذهب من المذاهب يقوم على الفقه ولكن ليس كل فقه يقتضي مذهبا . لان تسلسل الفقه على المعنى الذي بيناه، منذ تكونت الامصار بتفرق الصحابة رضي الله عنهم، ثم لما تسلسل ذلك مسترسلا من فقهاء الصحابة التابعين، هو الذي كان العامل في تكوين المذاهب . ولم يكن ذلك الفقه المتسلسل في عهد الصحابة وعهد التابعين هو المذاهب بعينها . لاننا لا نعتبر استقرار المذاهب الا في عهد تابعي التابعين اعني منذ اوائل القرن الثاني . فليس الذي نعنيه بالمذهب هنا معنى مرادفا للقول الفقهي الذي يختلف فيه قول فقيه عن فقيه اخر فيما هو مستنبط بالاجتهاد من الاحكام الفقهية الفرعية . ولكننا نعني بالمذاهب الاصول التي ترجع الى الطرائق والاساليب التي تستخرج بها الاحكام من ادلتها . واذا علمنا هذا فانا نعلم ان فقهاء الصحابة كانوا يستنبطون الاحكام، ويستدلون ويفتون بما يستنبطونه من الاحكام ولكنهم لم يكونوا يبينون الادلة، وفوق ذلك لم يكونوا يبينون الطريق التي سلكوا لاستخراج الفرع من دليله الاجمالي . وكذلك استمر الامر في عهد فقهاء التابعين فلما جاء الفقهاء الكبار في نفس المراكز الخمسة او الامصار الكبرى التي تسلسل فيها الفقه من عهد الصحابة وعهد التابعين اليهم في القرن الثاني، بدأوا يفحصون عن الادلة ويصفون المناهج والاساليب والطرائق التي كانوا يتخذونها للوصول الى استخراج الاحكام التفصيلية من ادلتها الاجمالية . وبذلك اعتبرنا هؤلاء ايمة مذاهب واعتبرنا مقالاتهم في الاصل لا في الفروع اساسا للمذاهب، واعتبرنا استقرار المذاهب حاصلا باولئك الاعلام الذين نسبت المذاهب اليهم، الى اسمائهم من ابي حنيفة والاوزاعي والليث بن سعد ومالك بن انس والشافعي رضي الله عنهم فاذا كان الى جنب هؤلاء فقهاء اخرون لا تقل منزلتهم عن منزلة هؤلاء من امثال السفيانين، سفيان الثوري وسفيان بن عيينة، وابن ابي ليلى وعبدالله بن المبارك وعبد الرحمان بن مهدي وغير هؤلاء، فان هؤلاء الذين لم يخوضوا في الاصول ولم يبحثوا في مسالك الاستنباط ولم يبينوا الطرق التي يسلكونها لاستخراج الاحكام من ادلتها ولم يبحثوا في حجية دليل دون حجية دليل اخر، هؤلاء انما نعتبرهم مشتركين مع ايمة المذاهب في وصف الفقه، وليسوا مشتركين معهم في وصف المذهبية . فهؤلاء يعتبرون من كبار فقهاء الامصار ولكنهم لا يعتبرون من ذوي المذاهب . اما اصحاب المذاهب فهم الذين تكلموا في الادلة التي هي الاصول وتكلموا في طرائق الاستدلال ومسالك الاستنباط، ورد الواحد منهم على الاخر في حجية دليل او حجية دليل اخر وفي استقامة مسلك من مسالك الاستدلال وعدم استقامة غيره . وهؤلاء هم الذين نعدهم على حسب تواريخ سبقهم الى الدار الاخرة وهم الامام ابو حنيفة والامام الاوزاعي والامام الليث والامام مالك والامام الشافعي وجميعهم انما عاشوا في القرن الثاني . ثم يلتحق بهم اثنان من كبار الفقهاء الذين خاضوا في الادلة ايضا وتناقشوا وتجادلوا في اصول الفقه وهما احمد بن حنبل في القرن الثالث والامام داود بن علي الاصفهاني المعروف بداود الظاهري في القرن الرابع . فهؤلاء هم الذين جرت بينهم المناظرات في الاصول وبين الواحد منهم ما يعتمد عليه من ادلة قد يشترك فيها مع غيره من مذاهب اخرى وقد ينفرد بها دون المذاهب الاخرى وذلك ما نجد مثله واضحة في اختلاف مالك والليث بن سعد رضي الله عنهما في مسألة حجية عمل اهل المدينة وما جرى بينهما من المراسلات التي اثبتها القاضي عياض في « المدارك « واثبت بقيتها الامام ابن القيم في كتاب « اعلام الموقعين « . ثم نجد مثال ذلك في رسالة الامام الشافعي، بصورة واضحة التي جمعت المسالك الاستدلالية وبينت المتفق عليه من تلك المسالك وبينت المختلف فيه وناقشت هي ايضا في حجية عمل اهل المدينة وفي حجية الاستحسان . كما نجده في الكتب الاخرى للامام الشافعي التي منها كتب تندرج في كتاب « الام « ومنها كتب تنفصل عن كتاب «الام « مثل رسالة ابطال الاستحسان ورسالة تخريج الحديث مما هو منفصل عن كتاب اختلاف كتاب « الام « او مثل كتاب الرد على محمد بن الحسن، او كتاب اختلاف مالك والشافعي في حجية اهل المدينة اللذين هما مندرجان في كتاب « الام « . وهذا المعنى من وضوح الاصول والاختلاف فيها هو الذي قضى بان يرتبط بهؤلاء الفقهاء رجال من الفقهاء من بعدهم يضافون اليهم ويحسبون عليهم من انهم مجتهدون مثلهم فابو يوسف ومحمد بالنسبة الى ابي حنيفة، وابن القاسم وأشهب بالنسبة الى مالك، والبويطي والمزني والربيع بن سليمان بالنسبة الى الشافعي، هؤلاء جميعا لم يكونوا الا مجتهدين . ولم يلتزموا ابدا تقليد الايمة الذين ينتسبون اليهم فيما وضعوا من الفروع ونجد ذلك واضحا في المذاهب كلها وبصورة خاصة في المذهب الحنفي الذي احصى فيه المتأخرون من الفقهاء المسائل التي وافق فيها الامامان، ابو يوسف ومحمد، الامام الاعظم ابا حنيفة رضي الله عنه فكانت لا تبلغ عشرين مسألة وما عدا ذلك كله محل خلاف . يتبع