يثير المسار الانتقالي مخاوف الكثير من التونسيين فهو لم ينتج سوى ديمقراطية سياسية اثمرت مؤشرات اقتصادية واجتماعية سلبية قد تؤدّي لاحقا الى تراجيديا مجتمعية وربّما انحراف في المسار. تونس (الشروق) هذه المخاوف ترجمتها نوايا التصويت في الانتخابات المقبلة وهي وفقا للمتابعين نتيجة منطقية لخيبة الامل التي اصابت التونسيين ما بعد الثورة بسبب عدم تحقق استحقاقات الثورة والتي هي بالأساس مطالب اجتماعية كالتشغيل ووضع حد لنزيف بطالة حاملي الشهائد العليا (تصل نسبتهم الى حوالي 40 بالمائة في صفوف الاناث وفقا لارقام المعهد الوطني للاحصاء) وتحقيق تنمية عادلة بين الجهات وتحقيق العدالة الاجتماعية والبيئية وتحسين الخدمات الأساسية كالصحة والتعليم وتحقيق الرفاه والعيش الكريم لعموم التونسيين. وهي مطالب لم تظهر في برامج الأحزاب المتنافسة في العملية الديمقراطية ما بعد الثورة. غياب الناخب برزت هذه المخاوف من خلال العزوف عن التصويت في الانتخابات البلدية إذ لم يشارك في التصويت سوى ثلث المسجلين (33.7 بالمائة) وهي رسالة غضب توجه بها الشباب الى السياسيين وفقا لمتابعين للشان الانتخابي. وتشير مجمل استطلاعات الراي الخاصة بالانتخابات التشريعية والرئاسية المقبلة الى ان نسبة العزوف عن التصويت قد تشهد زيادة قياسية في ثالث انتخابات عامة يتم تحقيقها منذ سقوط نظام بن علي. وترتفع نوايا عدم التصويت في الانتخابات المقبلة وفقا لسبر اراء حديث لسيغما كونساي لتبلغ 66 بالمائة بالنسبة للانتخابات التشريعية و57 بالمائة بالنسبة للانتخابات الرئاسية. وتشير مؤسسة امرود كونسيلتينغ في عملية سبر اراء بخصوص الانتخابات القادمة الى ان 39 بالمائة سيشاركون في الانتخابات التشريعية و45 بالمائة في الانتخابات الرئاسية. وكانت نسب التصويت في تشريعية 2014 في حدود 67 بالمائة وفي الرئاسية 60 بالمائة. هذا الحصاد، والعزوف عن التصويت، يُعيد التونسي الى مربعه الأول ما قبل 2010 حيث كان الغائب المُغيّب عن المشاركة في الحياة السياسية والشأن العام فهل يكون غياب الفاعل الرئيسي في العملية الديمقراطية أولى الضربات القاسية التي تتلقاها التجربة الديمقراطية التونسية؟ انهيار اقتصادي انهارت مجمل المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية في تونس منذ عام 2011 إذ بلغت نسبة التضخم خاصة خلال السنتين الأخيرتين 7.5 بالمائة. ورغم الإعلان الرسمي في بداية هذا الأسبوع عن تراجع نسبة التضخم الى حدود 7 بالمائة الا ان ذلك لا يمكن ان ينعكس إيجابيا على القدرة الشرائية للتونسي والتي شهدت انهيارا بلغ 88 بالمائة وفقا لارقام البنك الدولي وهو رقم صادم مقارنة بالأرقام الرسمية المعلنة في تونس والتي تشير الى نسبة التراجع تقدر ب48 بالمائة. كما شهد سعر صرف الدينار انزلاقا حادا امام الأورو (3.52 الى غاية صباح امس) والدولار (3.2 الى غاية صباح امس) علما وان سعر صرف الدينار امام الدولار في فيفري 2018 كان في حدود 2.2 وبالإضافة الى ارتفاع الأسعار وتراجع القدرة الشرائية تراجعت الخدمات الأساسية في الصحة والتعليم والنقل إذ فُقِدت ادوية أساسية من الصيدليات وتواصل غياب أطباء الاختصاص عن الجهات إذ تشكو 17 ولاية من حالة تصحّر على مستوى طب الاختصاص. اما بالنسبة لمؤشر البطالة فقد استقر مع نهاية العام 2018 في حدود 15.5 بالمائة وهي نسبة غير متكافئة بين مختلف الولايات إذ ترتفع في المناطق الغربي شمالا ووسطا وجنوبا. عنف اجتماعي اجتماعيا شهدت السنوات الثمانية حصادا مخيفا من انتشار ظواهر اجتماعية تهدد امن وسلامة المجتمع ابرزها الارتفاع القياسي لمستويات العنف في مختلف الفضاءات حتى تلك التي تعد الأكثر امانا وهي الفضاء الاسري لتصبح الزوج والابناء والام والأب والاشقاء ضحايا لابشع الجرائم وفقا للتقارير الشهرية التي داب المرصد الاجتماعي التونسي إصدارها حول العنف محذرا في كل مرة من تزايد حجم العنف في الوسط الاسري وفي الفضاءات العامة وبين الازواج. كما برزت ظاهرة الإدمان على القنب الهندي (الزطلة) والمخدرات في صفوف الأطفال والشباب وفي الفضاءات التربوية الامر الذي لم يصمت امامه أهالي حي حشاد في بوعرقوب بولاية نابل خلال شهر جانفي الماضي لتشهد تونس اول تحرك احتجاجي جماعي ضد ظاهرة الإدمان لمطالبة السلطات بوضع حد لهذه التهديدات ومساعدة المدمنين على الخروج من دائرة الانحراف والادمان. وبالتوازي ظهرت محاولات تدمير النمط المجتمعي التونسي فانتشرت معسكرات (مدارس قرانية) لغسل ادمغة الأطفال وصناعة جيل إرهابي لأسلمة المجتمع التونسي الذي بدأ منذ بداية القرن العشرين، مع الشيخ عبد العزيز الثعالبي، صراعه من اجل الحداثة والتنوير. من ذلك نذكر ما حصل من تدمير في البنية النفسية ل42 طفلا كانوا يزاولون تدريبات إرهابية في معسكر الرقاب (سيدي بوزيد) باسم تعليم القران الكريم. بل ان المجتمع اصبح يواجه حرب اشاعات مثل إشاعة محاولات الانقلاب والاطاحة بوزير الداخلية السابق بتهمة محاولته الانقلاب ورغم ذلك لم تتم محاكمة الرجل. تراجيديا وسط مجمل هذه المؤشرات وبعد تعذّر تحقيق حلول جماعية تحقّق الرفاه لجميع التونسيين وتتصدى للفساد وتحسن جودة الحياة بسبب انشغال الطبقة السياسية في صراعات لم تكن أصل المطالب التي رفعها المحتجون من 17 ديسمبر 2010 الى 14 جانفي 2011 بحث الكثير من التونسيين عن حلول فردية ففُتِحت أبواب الهجرة خارج البلاد اما بشكل نظامي او بشكل غير نظامي. فالأرقام المتداولة تشير الى مغادرة 94 الف كفاءة تونسية متخصصة في الطب والهندسة وغيرها من الاختصاصات الى شمال المتوسط. كما بلغت معدلات المغادرين بشكل غير نظامي في اتجاه السواحل الإيطالية عشرات الالاف منذ مارس 2011 وما يزال اكثر من 500 تونسي في عداد المفقودين. وتشير ارقام صادرة عن قسم الهجرة في المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية الى ان الامن احبط حوالي 7 الاف مهاجر غير نظامي ما بين جانفي 2018 و10 ديسمبر 2018 فيما نجح 6 الاف مهاجر في الوصول الى السواحل الايطالية وكان من بينهم 1028 قاصرا دون مرافق وهم اما تلاميذ او منقطعون حديثا عن الدراسة و120 طفلا مرفوقا و138 امراة. هؤلاء غادروا سفينة الديمقراطية التونسية وهي في خطواتها الأولى قناعة منهم بانها لن تؤدّي، بشكلها السياسي الحالي، سوى الى تراجيديا حقيقية ليس فيها حلول للمخرج الجماعي من الازمات. فؤاد غربالي (باحث في علم الاجتماع).. ديمقراطية بلا مضمون اجتماعي من وصل الى السلطة بعد الثورة ليس أصحاب المطالب بل فاعلون اخرون. وتونس بدأت تعرف خطوات في بناء ديمقراطيتها لكنها ديمقراطية ذات بعد انتخابي ولأنه ليس هناك توازن سياسي فقد ظهرت الديمقراطية مختلفة وليست متوازنة وبالتالي هي مسار غير مكتمل. وبالتالي ازمة الديمقراطية في تونس هي ازمة معارضة بالأساس والتي ما تزال الى ما بعد الثورة تلجأ الى الاحتماء بالاتحاد العام التونسي للشغل اثناء المواجهات واظهرت عدم قدرتها على خلق توازن ليبرز المجتمع المدني أبرز القوى في الساحة. والديمقراطية في تونس أصبحت واجهة فيها حرية تعبير وحرية تنظّم وهذا امر ليس سيئا ولكن لم تستثمره قوى اجتماعية للتأثير على الخيارات فسياق ما بعد الثورة هو النيوليبرالية وهي الأكثر توحشا رغم ان منطلق الثورة كان اجتماعيا بالأساس. والسؤال الذي يُطرح اليوم هو هل ان الضغط الذي يلقي به الاتحاد العام التونسي للشغل يمكن ان يغيّر السياسات المنتجة للبطالة وغياب العدالة الاجتماعية وغيرها من المسائل التي افرزت مؤشرات سلبية. نحن اذن امام ديمقراطية دون مضمون اجتماعي وهذا يقودنا الى تشكّل لوبيات مصالح ولوبيات سياسية ولوبيات رجال اعمال وتظهر اللعبة الديمقراطية لعبة أقوياء وتسوية وهي لم تشمل الجميع وبالتالي أصبحت ديمقراطية إجرائية أي ديمقراطية انتخابات لكن هل هذا هو المطلوب؟ المطلوب هو تجذّر هذه الديمقراطية اجتماعيا. فالديمقراطية ذات المضمون الاجتماعي تسمح للجميع بتحسين أوضاعهم لكن الديمقراطية بشكلها السياسي الحالي دعّمت الفساد وعدم التوازن. هناك أشياء إيجابية في تجربتنا الديمقراطية لكن في العمق لم يتغيّر شيء وهذا زاد من تعمّق ازمة الوضع الاقتصادي والاجتماعي لأصحاب المطالب. هؤلاء يشعرون انهم خارج اللعبة الديمقراطية وبالتالي سيلجؤون للحلول الفردية خارج المنظومة فنحن اليوم امام العاب سياسية منها اللعبة على الهوية وهو تقريبا ما حصل في الرقاب. وبالتالي الدولة أصبحت حقل صراعات وهذا أبرز خلل في الديمقراطية التونسية. رمضان بن عمر متحدث باسم المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية .. التراجيديا الحقيقية في المشهد السياسي الى أين يقودنا الوضع الاقتصادي والاجتماعي الحالي وما مدى تاثيراته على المسار الانتقالي؟ يعتبر فشل الحكومات المتعاقبة في إدارة الملف الاقتصادي والاجتماعي أكبر تهديد للمسار الانتقالي فالمؤشرات الاقتصادية والاجتماعية الرسمية تؤكد هذا السقوط الحر وتأثيراته على الفئات الهشة التي تلقي بظلالها على الوضع الاجتماعي مما يعمّق حجم الغضب والقطيعة والانصراف عن الشأن العام. ان القطيعة بين المواطن والسياسة تغذي أطماع طبقة سياسية تعاقبت على الحكم اثبتت فشلها وعجزها الا في التموقع والسيطرة على مفاصل الدولة وحفظ مصالح مجموعات النفوذ. ان الخطر اليوم الذي يهدد المسار الانتقالي وحتى الدولة في مكوناتها ووجودها يأتي من سياسات اثبتت فشلها ومن مشهد سياسي حربائي كاريكاتوري تنهار فيه القيم والمبادئ والالتزام أسرع من انهيار الدينار. مما يعمّق عزوف عموم المواطنين عن المشاركة الديمقراطية وفي تحقيق التغيير. هناك تقارير عديدة تتحدث عن «ازمة الديمقراطية» في تونس وانتهائها الى «تراجيديا» ابرز عناوينها الهروب الجماعي من تونس (سواء الهجرة النظامية او غير النظامية) ما لم يتم استصلاح المسار. في المنتدى كيف تنظرون الى مثل هذه القراءة؟ بل هي ازمة في فهم الديمقراطية وفي تمثلها حتى أنظمة ما قبل 2011 كانت تسوّق نفسها «ديمقراطية». فتحالف السلطة والثروة والذي يترجم في سياسات تنتهك مبادئ المساواة والعدالة الاجتماعية والانصاف تمثل التهديد الأبرز للديمقراطية في تونس وفي العالم. ان التداول السلمي على السلطة والحريات على أهميتها ليست الغايات النهائية لثورة الشعب التونسي بل بالتوازي رفعت شعارات الكرامة والعدالة الاجتماعية. نحن في ديمقراطية مريضة تكمن علتها في السياسات وفي الفاعلين السياسيين الذين تداولوا على الحكم. ان التراجيديا الحقيقية التي تعيشها تونس اليوم هي المشهد السياسي الحاكم وحزامه وما ظواهر «الهجرة» و»الاحتجاج» الا نتاج لها. لدينا أمل في ان في بلادنا مجتمعا مدنيا وحركات اجتماعية وحركة نسوية ونشطاء يقودون معارك على محدودية الانتصارات وعلى حجم الانتهاك والاقصاء والتشويه لكنها تشكل صدا منيعا ضد كل نكوص وتسير نحو تونس التي نريدها تونس الحرية والمساواة والكرامة والعدالة الاجتماعية.