ما حصل لأطفالنا الرضع في أحد مستشفيات العاصمة يعد بحق كارثة وطنية. كارثة تكشف حجم التسيّب واللامبالاة الذي بات يضرب الإدارة والمرفق العمومي. فالضمير المهني أصبح منذ سنوات عديدة في صيغة المستتر. وقيمة العمل فقدت قدسيتها وتحولت خدمة المواطن إلى شيء يباع ويشترى حتى وإن تعلّق الأمر بالحق في الحياة كما حدث في فاجعة أمس الأول. هذه الفوضى العارمة التي تستهدف ضرب المرفق العمومي والمؤسسات العمومية في كل المجالات لم تستثن قطاع الصحة الذي يعدّ إحدى الركائز التي بنيت عليها دولة الاستقلال الذي حقق مكاسب كانت تونس تفاخر بها رغم النقائص الكبيرة ورغم الشكوى المتكرّرة للمواطنين وللمتعاملين مع المستشفيات من ظواهر الاكتظاظ وفقدان الأدوية وطول الانتظار وكثرة أعطاب التجهيزات والآلات الطبية خاصة في السنوات الأخيرة. وهذا الخراب يشي بنوع من الاستهداف المقصود للقطاع وبنوع من الخطة الممنهجة التي تعتمدها بعض الأطراف واللوبيات من داخل القطاع ومن خارجه لضربه ومنع تعافيه من كل أمراضه ودفع المرضى دفعا إلى بدائل أخرى تبدأ وتنتهي في القطاع الخاص.. ونذكر في السنوات الأخيرة كيف أن كل الوزراء الذين تداولوا على حقيبة الصحة حاولوا تحريك المياه الراكدة وفتح الملفات الشائكة والعويصة لكن دون جدوى. وللتاريخ وللإنصاف فإن د. عبد الرؤوف الشريف الوزير المستقيل إثر كارثة مستشفى وسيلة بورقيبة يأتي على رأس هؤلاء. حيث أنه ابن القطاع وله دراية ومعرفة بكل تفاصيله وبكل الأمراض المزمنة التي يعانيها. كما أنه أدرى الناس وهو الطبيب الجراح ابن الصحة العمومية بوصفة الخلاص والعلاج لأمراض القطاع. وقد حول مصالح الوزارة منذ مجيئه قبل شهور قليلة إلى ورشة عمل كبرى لإطلاق عملية الإصلاح الشاملة وصولا إلى رقمنة كل المستشفيات للتحكم في رصيد الأدوية وسدّ كل قنوات سوء التصرف وسرقة واحتكار الأدوية التي أرقت المواطنين سنوات طويلة. لكن معاول التهديم ونوازع الفساد كانت أسرع وأقوى من كل نوايا الإصلاح ومن كل الإرادات الخيّرة التي حاولت إعادة البناء والدفع نحو تعافي هذا القطاع الحيوي والحساس في حياة الشعب التونسي. إن الجرأة التي تحلى بها الوزير عندما قدّم استقالته تأتي من باب الاعتراف وتحمّل المسؤولية. لكنها في المقابل صرخة فزع للانكباب بجدية على القطاع ومعالجة كل أمراضه المزمنة. وهي كثيرة ومعلومة لأهل الذكر والاختصاص.. وفوق هذا هي صيحة فزع في وجه التسيّب والفوضى واللامبالاة وقوانين الصمت والتواطؤ التي باتت تضرب القطاع العمومي في مقتل والتي أحالت قيمة العمل ومعاني المسؤولية إلى أشبه شيء بالموت السريري الذي لن ينفع معه إلا الجراحة. حالة الهوان والتردي التي باتت تضرب المرفق العمومي هي أحد معاني وعناوين هوان وضعف وعجز الدولة.. وقد آن الأوان لكي تستعيد الدولة هيبتها وتأخذ بزمام الأمور بقوة وبجدية عساها تنقذ ما يمكن إنقاذه وتمنع حدوث الانهيار الكبير الذي تكدّست مؤشراته وتراكمت نذره. وأحدها ما حدث لفلذات أكبادنا أول أمس.