لا يزال تعمّد شيخة مدينة تونس تغيير تسمية نهج ابن عربي بنهج صربيا يثير الكثير من الجدل وحتى الغضب في صفوف مستعملي الشبكات الاجتماعية. ولئن برّرت رئيسة البلدية هذه الخطوة بوجود اتفاقية مع الجانب الصربي وعبر وزارة الخارجية تنص على إطلاق اسم تونس على أحد الأنهج في صربيا واسم صربيا على أحد الأنهج في تونس فإن هذا التبرير لا يكفي للاقناع بعدم وجود «خلفية» أخرى تقف وراء استهداف ابن عربي بالذات. وابن عربي هذا هو اثنان الأول اسمه محيي الدين بن عربي ولد بمدينة مرسية بالأندلس في جويلية 1165 وتوفي في نوفمبر 1240.. وهو فيلسوف وكاتب وشاعر ورمز من رموز المتصوفة. من مؤلفاته «فصوص الحكم» و«الفتوحات المكية» و«ترجمان الأشواق». أما الثاني فهو القاضي أبو بكر بن عربي المولود بإشبيلية في الأندلس عام 1076 والمتوفى بمدينة فاس بالمغرب الأقصى عام 1148. وله مؤلف مشهور تحت عنوان «التصانيف والتآليف». وللتفريق بينهما فإن الدارسين والباحثين والمهتمين بسيرة الرجلين يطلقون على الأول (محيي الدين) لقب ابن عربي فيما يطلقون على الثاني (أبو بكر) لقب ابن عربي. وأيا كان موضوع التسمية بالشارع المذكور فإنه ابن عربي. وهو أحد «ابني العربي» وهو من تعرّض إلى هذا العدوان «البلدي» بعد قرون طويلة. وهو عدوان يطرح سؤالا في صميم جدل وغضب شريحة هامة من التونسيين الذين انتفضوا نصرة لهذا الرمز الكبير وهذا العلم الكبير في الموروث العربي الاسلامي وفي تراثنا الأندلسي الذي هو جزء لا يتجزأ من تاريخ حضارتنا العربية الاسلامية.. يقول السؤال: هل ضاقت الدنيا برئيسة البلدية وبوزارة الخارجية حتى يتعمدا اقتلاع أحد عناوين حضارتنا العربية الاسلامية واستبداله باسم دولة صربيا مع احترامنا لها ولعلاقاتنا معها ولغت في دماء المسلمين في تسعينات القرن الماضي إبان تفكيك الاتحاد اليوغسلافي وظهور دولة البوسنة والهرسك الاسلامية.. هذه الدولة التي تعرّض شعبها لمجازر بشعة على أيدي الجزارين «ميلوزوفيتش» وقائد جيشه كارادجيتيش»؟ ويزداد السؤال عبثية وسخرية حين نستعرض آلاف الأنهج في العاصمة وفي أحيائها الراقية التي تحمل أسماء عصافير وزهور وحتى أرقام.. وكذلك أسماء رموز من عتاة وعناوين الاحتلال الفرنسي.. وكل هؤلاء الذين ما كان استبدال اسم أحدهم باسم دولة صربيا ليثير غضب التونسيين واعتراضهم على هذا العدوان الذي اقتلع ابن جلدتنا ليزرع مكانه اسم دولة صربيا. ونبشا في خلفية هذه الخطوة المستفزّة نجد أنفسنا أمام سيرة محيي الدين بن عربي العالم المتصوف والذي تستفز مؤلفاته وأفكاره متشددي هذا الزمان الذين يصنفونها ك«أفكار كفرية».. أي أفكار مروجة للكفر وهو ما يكفي لتطلق عليه سهام التكفير ليصبح اقتلاع اسمه وسيرته متماهيا مع موجات هذا الزمان المتدثرة برداء الاسلام السياسي والتي أسست لولادة الفكر الداعشي التكفيري و انتشاره. نحن ننزه شيخة المدينة عن هذه الخلفية وعن هذه التهمة. لكن وعملا بقاعدة دع ما يريبك إلى ما لا يريبك نهمس إليها أنه إذا كانت تدرك هذه الخلفية وتجاهلتها فقد أخطأت. وإن كانت تجهلها فإن خطأها مضاعف. لأنها استفزت بخطوتها تراثنا وحضارتنا وفكرنا وذاكرتنا وزرعت سببا آخر لانبتات أجيالنا الحاضرة وجهلها برموز حضارتها وبأعلام خطوا أسماءهم بأحرف من ذهب في التراث الانساني وليس العربي الاسلامي وحسب.. لكأن ابن عربي (محيي الدين) تنبأ لنفسه بهذه النهاية البائسة عندما كتب: «كانت الأرحام أوطاننا فاغتربنا عنها بالولادة» واستلهاما واستعارة منه وعلى لسانه نقول لرئيسة البلدية: كانت الشوارع عنواننا فاغتربنا عنها بالكتابة! رحمك الله يا شيخنا الجليل وستبقى شامخا حاضرا في تراثنا العربي الاسلامي، ولن يكون هذا العدوان إلاّ مجرّد ذكرى بائسة.