فالأنثى حين تخوض تجربة بجسدها ولا تخوضها بقلبها ومشاعرها لا تؤثر فيها. والقلب حين يخفق للإيمان والتوبة يعْتُق الجسد ويحرّره من سجن اللذة والرغبة، فتغادر البيت والمدينة والبيئة إلى مكان آخر. وما الحركة الصّوفية إلا تطهير للجسد من إلحاح الشّهوة وتخليص للعقل من محدوديته. فهل نجحت مريم ذياب في تحرير شخصية شفاء من العوائق التي تحيط بها والانطلاق بها إلى عوالم أرحب؟. بين شفاء بطلة رواية رقصا على أعتاب العابرين وشخصية السيدة المنوبية. لا بد أن نشير إلى أن التجاء بطلة الرواية إلى مقام السيدة المنوبية لم يكن مبرمجا له. والواقع أنها وهي تصل متأخرة إلى العاصمة وتستشعر قدوم الليل بمقبرة الجلاز الذي سرّع منسوب خوفها وإحساسها بالفناء وتفاهة الحياة ، قرّبها أكثر إلى الله وصوّر لها أن الفوز كلّ الفوز في الرجوع إلى الحق الملاذ الأمين للإنسان. ولولا الليل وإحساسها بالضّياع وما تسرّب إليها من وعي بتفاهة الحياة في لحظتها تلك، لما برق في ذهنها مقام «السيدة المنوبية» وتمثُّلِ شخصيتها ملاذا للفقراء والمهمشين، إذ يقول الباحث «عبد الجليل بوقرة» في مقاله المنشور على الشيكة العنكبوتية: «السيدة المنوبية من ألفها إلى يائها». (كان المشهد السياسي والاقتصادي والديني خلال تلك الحقبة من تاريخ إفريقية 593ه / 665 ه / 1197 م / 1267 م لا يبعث على الاطمئنان فقد انعدم الأمن مما يفسر تنامي الحاجة إلى الإيمان وإلى اللجوء إلى أصحاب الكرامات ممن يملكون ناصية العلم والدين. كانوا يلوذون بأولياء الله الصّالحين بحثا عن الأمان والاطمئنان.). لماذا تذكرت شفاء في هذه اللحظة مقام السيدة المنوبية ولم تتذكر مكانا آخر أو صديقا تلتجئ إليه؟ لا شك أنّ نورا من الله انقذف في صدرها فجعلها تفكّر في طيّ ماضيها بل والتخلّص من حاضرها والتوق إلى النجاة بالبحث عن الحق والخير والجمال وبالتقرب من عباده الصالحين، لعلها تتخلّص من سيرة الماضي وقد شعّت في ذهنها شخصيتا رابعة العدوية والسيدة المنوبية كأفضل مثال للتوبة والتقوى وهجر الدنيا. استطاعت الأولى التخلص من الدنس والشهوة والضياع وأن تطرد الدنيا من حياتها فتقتل جسدا وتحيي آخر عبدا، مشعّا إيمانا، فتكسب أتباعا جددا، أولئك الباحثين عن الحقيقة والله. واستطاعت الثانية أن تسير على أعقابها في التبتل والإرادة. فباب التوبة مفتوح مهما أتى الإنسان من ذنب والله يقبل توبة عبده ما لم يشرك به. وإذا كان في سيرة المتصوفة زهد فقد أقبلت شفاء على هذه الحال. تبرعت بمنزلها وما تملك من عقار لفائدة عائلة فقيرة واكتفت من المال ببعض مجوهراتها. حتما لم تقبل شفاء على التصوف إقبال العالم العارف التقي، فزادها من العلم منعدم لكنّ قابليتها للتوبة كبيرة. عاشت جملة انكسارات وأحاطت بها عدة عوامل قاسمة: رفضها مجتمع وعاداها جيران وتكالب على جسدها رجال باعتبارها مجرّد وعاء لسكب قاذوراتهم. فانعدمت السكينة من حياتها. لهذا كان أخذها بالتصوف حاجة نفسية ملحة. ويبدو هذا واضحا في أن رحلتها إلى الله لن تكون سهلة وسيكون فيها صبر ومعاناة وهذا ما سيتبلور لاحقا من تواصل رحلاتها في المكان والزمان عبر مواقع المريدين ودول شمال إفريقية وتخوم الصحراء وعبر الأوطان لتعرف وتتعرف رموز التصوف وتعيش تجربة التبتل وتجتهد في الأخذ بعوالم المتصوفة ومعارفهم. والتصوف عامة هو استعداد نفسي قبل كل شيء وتحدّ لقوانين المجتمع ورؤاه وعدم تسامحه. مجتمع يعاقب الزاني ويحتقره ويرفض الكافر بل وحتى العالم إذا خرج بعلمه عن علوم النقل. علاقة الرواية بالتصوف أو علاقة التصوف بالفن؟ يقول « محمد الرشيد هميسي « الباحث الجزائري في كتابه» حضور التصوف في الخطاب الروائي العربي المعاصر»: (اجترحَ التصوف طريقة جديدة في المعرفة والإدراك، هي طريقة العرفان التي تجعل القلب (الحدس والذوق) أسّا في البحث والوصول إلى المجاهيل والمغيبات. والحقائق الباطنية تستهوي الأدب لما لها من وثيق الصّلة بالوجدان الذي هو عنصر أساسي مكين في الأدب). والقارئ لهذه الرواية قد لا يجد تفسيرا منطقيا لما أتته شفاء بطلة الرواية في سعيها إلى التصوف. والخروج من دائرة المادة وضغوطها ودفعها نحو استغلال جسد الأنثى في اللذة والإحساس بالعالم والتفكير من خلاله. ورغم هذا كما قال الدارسون للفن والتصوف إن هكذا سلوكا مقبول دون أن نوجد له مبررا أو تفسيرا منطقيا. فالتصوف والفن كلاهما تجربة شخصية فردية تقوم على الذوق). والكاتب الفنان ليس مخلوقا عاديا يبدع أعماله عن قصد وتفكير ورويّة بل مجرد أداة في يد قوّة عليا). وقد عبرت الكاتبة عن هذا مع الحضور بدار الثقافة ابن رشيق بتونس العاصمة كونها لاتدري لماذا وجدت نفسها تنحو بروايتها هذا المنحى الصوفي. بل نقول لعل منشأ الرواية كما قالت حلم يتعلق بمريم العذراء وطفلها عيسى عليهما السلام. مما يجعلنا نتساءل : هل كان دافعُها إلى الكتابة ناتجا عن تخطيط ووعي بعوالم المتصوفية أم مجرد استجابة لرؤيا ؟. ثم لماذا لم تغصْ في المشاعر وأفكار المتصوفة وتحفر عميقا في سيرة بطلتها حتى يكون نصّها مقنعا في إطار الإنتاج الروائي الصوفي؟. ولعل الأمر لا يتعدّى في نظرنا كونه مجرد توق داخلي نحو الخلاص من عبء ثقيل وفساد لحظة ودعارة مجتمع. فتصبح التجربة الصوفية عند البطلة مجرد توق نحو التحرر والخروج من دائرة الحتمية لا غير. لماذا يسعى الكتاب إلى توظيف التصوف في رواياتهم؟ من المعلوم أن التصوف أداة إلى المعرفة العرفانية التي توظف القلب والحدس والذوق. وهذا من شأنه أن ينتج قراءة أخرى للعمل الأدبي. قراءة توفر مساحة من التأويل والتحرر بل رؤية ومضامين أخرى أكثر ابتكارا كأن تمكن مثلا الشخصية من أن تذهب بعيدا في المعنى. فهل استفادت هذه الروائية من قاموس التصوف أم أن التجربة كانت مجرّد قرار لم يصل بعد بالشخصية إلى مرتبة التجربة؟. ورغم هذا لابد أن نتجاوز هذه النقائص ونتفطن إلى البعد الغائب أو المخفي من الكتابة والتصوف ذلك أن التصوف في علاقة بالإنساني والإيماني والفني يبحث في جمال اللغة والخطاب والرؤية كما يبحث عن متعة باطنية ترفع مهمة الإنسان إلى مزيد الكمال بحيث كلما حصّل الإنسان منها نصيبا ارتقى درجة إنسانية أخرى. خلاصة : نظرنا في هذه الرواية من حيث سعي الكاتبة من خلال بطلتها إلى عيش تجربة التصوف وحلّلناها ولكننا أحسسنا أن الروائية تكاد تكون غيّبت المعنى الرئيس الذي اشتغلت عليه ولم تفلسفه مما اضطرنا إلى البحث في ماهية التصوف وملابساته في كتب وبحوث أخرى. ولا بد أن نقول إن كتابة رواية صوفية ليس بالأمر الهين فلابدّ للكاتب من أن يستنطق أمّهات كتب التصوف وفلسفاته ويأخذ منها ما يحتاجه في عمله الأدبي على مستوى اللغة أو الشخصية وما عاشته من تجربة روحية قادرة على توليد معان عرفانية تخرج بالإنسان من ضيق الأمكنة والعبارة إلى متسع المعنى. انتهى رواية : رقص على أعتاب العابرين / 152ص صادرة عن دار زينب للنشر أكتوبر 2018