يتذمر التونسيون من الزيادات المشطة في أسعار المواد الغذائية هذه الأيام والتي شملت مواد يفترض ان أسعارها "رخيصة" كالبطاطا والبصل إلا ان سعر الكلغرام الواحد من هاتين المادتين بلغ دينارين في بعض أسواق العاصمة وفقا لما عاينته "الشروق" ميدانيا. تونس (الشروق) كما تشهد أسعار الغلال بدورها زيادة مشطة ليصل سعر الكلغ الواحد من الموز حوالي 7 دنانير بالإضافة الى الأسعار القياسية للتفاح التي تصل في بعض الأسواق الى 15 دينارا. ولا تخلو بقية المواد من اسماك ولحوم حمراء من الزيادات المشطة حيث بلغ سعر الكلغ الواحد من لحم الضأن 30 دينارا في بعض الأسواق. ولا يخفي المهنيون تخوفاتهم من مزيد ارتفاع هذا السعر ليصل الى 35 دينارا بحلول شهر رمضان. وفي المقابل نفى عبد القادر التيمومي المدير العام لشركة اللحوم هذه المخاوف واعدا بأن لا يتجاوز سعر الكيلغرام الواحد 22 دينارا. مخاوف هذه الطمأنة لا يمكنها بأي حال من الأحوال ان تنهي مخاوف التونسيين من اشتعال الأسعار خلال شهر رمضان المقبل. ويستشعر أغلبهم بأنهم اصبحوا غير قادرين على تأمين حاجياتهم الغذائية الأساسية بسبب الارتفاع المتوالي للأسعار دون رقيب او حسيب. إذ يقول عبد الله وهو ميكانيكي لا يتجاوز دخله الشهر 800 دينار وهو اب لطفلين إن "المضاربين والمحتكرين هم فئة تجارية يتواجدون دائما في الأسواق وفي مسالك التوزيع وإن تاريخ تواجدهم يعود الى ما قبل الثورة الا ان انفلات الأمور الاقتصادية والسياسية ما بعد الثورة حفّز جشعهم واطماعهم الربحية وفي ظل غياب المراقبة واستغلال الظرفية الاقتصادية والسياسية تغولوا على الدولة والقانون وأصبحوا المتحكم الرئيسي في الأسواق وأسعار المنتوجات. وهو الوضع الذي أضر بالمنتج وبالمستهلك في الآن نفسه". ويضيف صديقه رؤوف وهو كهربائي يتقاضى 850 دينارا شهريا ان غياب القناعة لدى المستهلك وعدم وجود ثقافة استهلاكية جعل الأسواق مساحات ربحية بامتياز للمحتكرين و"الهباطة". وما يثير مخاوف التونسيين أيضا ان السلطات الرسمية كانت قبل الثورة تتخذ إجراءات صارمة للتحكم في الأسعار خلال شهر رمضان بقطع النظر عن الغاية السياسية منها، وهي الترويج لحكمة السياسة الاجتماعية للنظام، الا أن المناخ السياسي ما بعد الثورة وعدم الاستقرار على مستوى الوزارات وعلى مستوى الوزارة الأولى ذاتها جعل الخطط والبرامج تغيب وفي حالة تشتت وجعل المسؤولين المباشرين لهذا الملف هم ذاتهم على غير دراية بما يحصل وكيف يمكن التحكم في هذا التدفق السريع للأسعار. وتشير أرقام المعهد الوطني للإحصاء الى أن الرقم القياسي العام لاسعار الاستهلاك العائلي ارتفع من 100 سنة 2015 الى 117.1 سنة 2018 وذلك في آخر تحيين لها بتاريخ 3 مارس 2019. وتسجل الزيادات خاصة في قطاعي النقل والتعليم والسكن والطاقة المنزلية والتغذية والمشروبات (ارتفعت من 100 سنة 2015 الى 115.8 سنة 2018). غياب السلطة من جهتها تتوقع منظمتا الدفاع عن المستهلك وارشاد المستهلك زيادات مشطة في الأسعار خلال رمضان المقبل دون وجود أي إرادة لدى السلطات الرسمية للحد من الاخلالات المحيطة بالأسواق والتي تتسبب بشكل مباشر في ارتفاع الأسعار وبالتالي إحالة القدرة الشرائية للمستهلك على مزيد من التدهور علما ان آخر الأرقام المتداولة حول انهيار المقدرة الشرائية للتونسيين تشير الى ما نسبته 88 بالمئة في مقارنة بين 2010 و2018. ويتوقع لطفي الرياحي رئيس المنظمة التونسية لإرشاد المستهلك زيادة بنسبة 30 بالمئة في مستوى أسعار المواد الغذائية خلال شهر رمضان المقبل مقارنة برمضان 2018 موضحا ل"الشروق" ان الزيادة في المحروقات ستكون لها انعكاسات مباشرة على مستوى أسعار المنتوجات فهي سبب رئيسي للغلاء بالإضافة الى المضاربة وكذلك اعتماد المساحات الكبرى على هامش ربح يصل سقفه الى 70 بالمئة. وقال الرياحي أيضا إن الحكومة مطالبة عاجلا بتحديد سقف أعلى لهامش الربح في المنتوجات. وهي التي بدت عاجزة عن التحكم في مستوى الأسعار باعتبار ان المتحكم في هيكلة الأسعار هو المضارب الذي يسيطر على الإنتاج بالتخزين وبالتبريد. وهو المسيطر على كافة حلقات الإنتاج والتوزيع حسب قول الرياحي. كما اعتبر الرياحي أن هذا الوضع غير المتحكم فيه من قبل الدولة يأخذنا نحو نسق تصاعدي للأسعار خلال شهر رمضان المقبل. وأضاف اننا امام نزيف مستمر للأسعار ما لم تتم "السيطرة على التجارة الموازية وعلى المضاربة وتحديد سقف أعلى لهامش الربح". ومن جهتها اعتبرت ثريا التباسي نائبة رئيس الدفاع عن المستهلك أن موجة غلاء مستمرة وآخرها الترفيع في سعر المحروقات "وهذا ما نندد به في كل بيان. فوضعية المستهلك أصبحت اكثر من صعبة اليوم في ظل غلاء المعيشة التي طالت كل المواد ليصبح التونسي يتخبط في تداين يصعب الخروج منه. وجميع التونسيين اليوم أصبحوا يعيشون ب"الروج" في البنوك أي انهم "مسالون" في حساباتهم الجارية بسبب أوضاعهم المعيشية. وهذا له تأثير على نسق الاستهلاك". وأضافت "نحن نعلم أن الاقتصاد يمر بمرحلة صعبة. لكن يجب الاخذ بعين الاعتبار القدرة الشرائية للمستهلك". واعتبرت ثريا التباسي أن المحروقات مضخ لكل القطاعات وان الترفيع في أسعارها يعني بالضرورة الترفيع في بقية الحلقات. كما اعتبرت أن "الزيادات متوقعة في جميع المجالات بسبب المحروقات وعوامل أخرى كمسالك التوزيع غير المقننة والمضاربة الرهيبة". وفسرت عجز السلطة امام التحكم في توزيع مسالك التوزيع بغياب الإرادة للوقفة الحازمة موضحة انه "ليس هناك رغبة واضحة في ادماج مسالك التوزيع غير المقننة بل انها أصبحت أمرا واقعا نتعايش معه وكان من الأجدر تقنينها لتعزيز موارد الدولة والحد من نزيف الأسعار". وفي المحصلة يتفق الجميع على ان وضع الأسعار ووضعية المستهلك أصبحت مصدر انشغال لدى المجتمع المدني ذاته في الوقت الذي تعجز فيه السلطات الرسمية عن اتخاذ إجراءات ووضع خطة انقاذ مستعجلة للحؤول دون مزيد ارتفاع الأسعار وبالتالي مزيد انهيار المقدرة الشرائية وسط أوضاع محلية غير مستقرة وأوضاع إقليمية معقدة قد تزيد في تعقيد الوضع في الأسواق التونسية إذا ما توافد المزيد من اللاجئين الى تونس. حسين الديماسي (خبير اقتصادي) .. النزيف سيتواصل والسبب الميزانية تتصاعد التشكيات من الزيادة المستمرة في أسعار المواد الغذائية وهناك مخاوف من مزيد ارتفاعها خلال شهر رمضان المقبل. ومن وجهة نظر اقتصادية كيف نفهم هذه الزيادات؟ وماهي أسبابها؟ السبب الأساسي هو وضعية الميزانية العمومية فنحن أنهينا ميزانية 2018 بصعوبة تمثلت في التخفيض المحسوس في نفقات الدعم في الكهرباء والغاز (وهذا ما يفسر الزيادات في أسعار الكهرباء والغاز) وبنينا ميزانية 2019 على جملة من القروض المقدر حجمها ب10.5 مليارات دينار حوالي 3 مليارات دينار منها قروض داخلية. والباقي قروض خارجية دون ان يتم توضيح او تدقيق من اين سنحصل على هذه القروض. والاعتماد على هكذا قروض خارجية يعني الخروج الى السوق المالية العالمية. وهو أمر صعب على تونس في هذه المرحلة. إذ أن المقرضين فقدوا ثقتهم في تونس. كما أن نسبة الفائدة في هذه القروض مرتفعة جدا. وبالتالي نحن امام فرضية التخفيض في نفقات الدعم. وهذا يعني احتمال المس بدعم بعض المواد الغذائية. إذن نحن في مواجهة وضعية صعبة للميزانية. والترفيع الأخير في أسعار المحروقات ستكون له بالضرورة تأثيرات مباشرة على أسعار بقية المواد الاستهلاكية على أقصى تقدير بعد شهر أو شهرين وبالتالي من المتوقع أن يستمر التهاب الأسعار. هل من حلول عاجلة يمكن أن تتخذها الحكومة للتحكم في هذه الأسعار وبالتالي التحكم في نسبة التضخم؟ ليس هناك حلول ولكن هناك بدائل. فالاقتصاد ليس لعبة وحين تخطئ يأتيك اليوم الذي يصعب فيه إصلاح الأوضاع. فنحن اليوم في وضعية من "يلاجي" وليس من بصدد "الإصلاح". فمنذ سنوات نبهنا الى هذه الأخطاء ولا أحد استمع الينا ونبهنا من توريط البلاد بسبب سوء التصرف في الميزانية وموارد الميزانية. والحكومة الحالية في مواجهة ثلاث فرضيات للمحافظة على التوازن في الميزانية. فهي مطالبة إما بتخفيف ميزانية الدعم او توظيف المزيد من الضرائب أو اللجوء الى المزيد من التداين. حاورته أسماء سحبون