دراسة للمعهد الوطني للدراسات الاستراتيجية: الحكومات المتعاقبة بعد الثورة عجزت عن حل معضلة تراجع المقدرة الشرائية وارتفاع الأسعار... وميزانية 2019 لم تقدم الحلول. تونس (الشروق) ابتسام جمال يبدو أن ارتفاع الأسعار قد تحول لدى التونسيين إلى داء مزمن عجزت الإجراءات والقرارات عن مداواته، كما تبدو زيادات الأجور واهية وغير قادرة على مجابهة مؤشر الأسعار المتصاعد، المتزامن مع ارتفاع نسبة الفائدة البنكية. جولة في الأسوق التونسية وبين المحلات التجارية كشفت تذمر التونسيين بل و"اختناقهم" من تواصل ارتفاع الأسعار الذي طال كل المنتجات. ووصف التونسيون الأسعار بأنها تجاوزت الحد سواء في مواد التنظيف أو الأثاث والأدوات الكهرومنزلية، والفواتير و"القفة". والواقع أن المنحى التصاعدي للأسعار ليس وليد الأشهر الأخيرة فهو نتاج تراكمي عرفته البلاد منذ سنوات، فقد "وصلت مؤشرات ارتفاع الأسعار وتدهور المقدرة الشرائية للمواطن خلال السنوات الأخيرة، وتحديدا منذ سنة 2011، حدّا قياسيا تداعت عنه أزمات اجتماعية واقتصادية لم تتوقف عن التفاقم". وفقا لما بينته دراسات المعهد الوطني للدراسات الاستراتيجية. غلاء شامل تبين معطيات المعهد الوطني للإحصاء تواصل ارتفاع الأسعار، وهو ما كشفته أرقام بداية سنة 2019، حيث ارتفع مؤشر أسعار الاستهلاك العائلي بنسبة 0,8 بالمائة خلال شهر جانفي 2019 مقارنة بشهر ديسمبر 2018. وأرجع المعهد هذا التطور الى الارتفاع المسجل في اسعار مجموعة التغذية والمشروبات بنسبة 2,2 بالمائة وأسعار الأثاث والتجهيزات والخدمات المنزلية بنسبة 0,9 بالمائة وارتفعت اسعار ومواد وخدمات الصحة بنسبة 0,7 بالمائة. وسجل مؤشر مجموعة التغذية والمشروبات ارتفاعا هاما بنسبة 2,2 بالمائة شمل اسعار الخضر الطازجة واسعار الدواجن والبيض واسعار اللحوم الحمراء . الارتفاع في أسعار حاجيات المستهلك شمل أيضا مجموعة الصحة بنسبة 0,7 بالمائة اذ تطورت اسعار الادوية بنسبة 1,1 بالمائة واسعار الخدمات الطبية الخاصة بنسبة 0,6 بالمائة. ولم تسلم اسعار المساكن والمنازل والشقق من تسجيل ارتفاع متواصل، كما سجلت أسعار المواد المرتبطة بصيانة المساكن بدورها ارتفاعا، وكذلك مواد التنظيف المنزلي واسعار مواد واسعار التجهيزات الكهرومنزلية . اختناق المستهلك الواضح أن ارتفاع الأسعار المتواصل وغلاء المعيشة الذي يعيشه التونسيون بشكل متواصل لن تنفع معه زيادات الأجور. فلئن كانت هذه الزيادات تغطي بالكاد نسبة ارتفاع الأسعار المسجلة بطبعها في جميع المواد الاستهلاكية فإن "الأمرّ" هذه المرة أن المستهلك دخل منطقة المصاريف السلبية باعتبار أن نسبة ارتفاع نسبة الفائدة المديرية الموظفة على القروض ستزيد من حجم المصاريف مقابل استقرار في حجم المداخيل. وهو ما يعني دخول المستهلك في منطقة "العجز" الرسمي في موازنته العائلية، وهو ما تحدث عنه رئيس المنظمة التونسية لإرشاد المستهلك لطفي الرياحي. وقال إن ارتفاع الأسعار الذي كان يثقل كاهل المستهلك ويضع موازنته في خانة العجز ويدخله في دائرة "الكريدي" والاقتراض، لن يكون السبب الوحيد في معاناته، فارتفاع الفائدة المديرية لثلاث مرات في سنة، وارتفاع حجم القروض سيزيد من إغراق موازنة المواطن الذي سيصبح عاجزا عن الإيفاء بالتزاماته البنكية. واعتبر أن المستفيد الأول من هذه الأزمة هم المضاربون والبنوك وأصحاب المساحات الكبرى الذين يتحصلون على هامش من الربح الأمامي والخلفي بصورة غير قانونية، وتصل أرباحهم أحيانا إلى 70 بالمائة. كما اعتبر أن الإجراءات المتتالية للحكومات المتعاقبة لم تؤت أكلها، فالمفروض أن أول إجراء عملي هو مقاومة الاحتكار. واقترح عدم توريد منتجات لها مثيل في تونس وتحديد سقف الربح حتى يتم الإجهاز على المضاربات. ويبدو أن ارتفاع الأسعار في مادة معينة عادة ما يجر وراءه سلسلة من الأسعار المرتفعة في مواد أخرى، فترفيع سعر الكهرباء يجر ترفيع أسعار المنتجات وترفيع أسعار الخدمات وغيرها. وما يزيد الطين بلة الترفيع في أسعار الفائدة المديرية في القروض البنكية. غير مسبوق الارتفاع الذي سجلته الأسعار في المدة الأخيرة والمعدلات التي وصلتها سنة 2018، هي معدلات ونسب غير مسبوقة حسب المعهد الوطني للدراسات الاستراتيجية. وقد بلغت نسبة التضخّم في تونس حدود 7.4 %، وأصبح 60 % من الأسر التونسية تعاني من المديونية، و47 % من الموظفين يستنفدون أجرتهم قبل منتصف الشهر، كما ثبت أنّ 54 % من الأداءات التي تدخل ميزانية الدولة يتمّ اقتطاعها من مرتبات الأجراء، ووصل حجم مديونية الأسر التونسية لدى البنوك 23 مليون دينار سنة 2018 مقابل 10 ملايين دينار سنة 2010. واعتبرت الدراسة أن الحكومات المتعاقبة عجزت عن إيجاد حلول لمعضلة الأسعار وتراجع المقدرة الشرائية للتونسي "وأمام هول هذه الأرقام الصادمة عجزت كل الحكومات المتعاقبة منذ 2011 عن إيجاد الحلول العملية الناجعة لإيقاف هذا النزيف، وتعطلت تبعًا لذلك كلّ الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية الموعودة بسبب الصراعات السياسية، فحتى مشروع قانون الميزانية لسنة 2019 لم يطرح حلولاً قابلة للتنفيذ للحدّ من الارتفاع المتزايد للأسعار والتدهور المتسارع للمقدرة الشرائية". ويشير الخبراء إلى أن زيادات الأجور ليست بحل لتجاوز أزمة تراجع المقدرة الشرائية، وهوما تبينه دراسات اهتمت بالأجور في الوظيفة العمومية، حيث ارتفعت كتلة الاجور ب 118 بالمائة من 2010 الى 2018 بينما ارتفع مؤشر الأسعار بحوالي 45 بالمائة مما يعني ان كتلة الاجور الحقيقية ارتفعت ب 50 بالمائة فقط. الآلام متواصلة يبدو أن مشاكل ومعاناة التونسي مع ارتفاع الأسعار وضرره بتوظيف الفائدة المديرية أمر ليس بالجديد وهو ما كان قد حذر منه الخبير الاقتصادي في المخاطر المالية مراد حطاب في حديث مع "الشروق" قائلا إن "درب الآلام سيتواصل.. والتونسي من يدفع الفاتورة". وينعكس ارتفاع الاقتطاع أو «القصاصات» الموظفة على القروض، والأداءات الجبائية التي يتحملها التونسي بسبب الأزمة الاقتصادية، لا على موازناته المالية فقط بل أيضا على المعاملات المالية والاستهلاك، ويجر معه سلسلة جديدة من الأسعار المرتفعة. ويعتبر الرفع في سعر الفائدة المديرية حسب بعض المحللين من الحلول عندما تفقد الأموال قيمتها وترتفع الأسعار، وتساهم في الحد من الاستهلاك والتضخم. لكن الواقع حسب خبراء الاقتصاد أن ما يروج عن كثرة تداين التونسي وكثرة قروضه قصد "الترفيه" ليس صحيحا، فالديون عند التونسيين تحولت إلى استهلاك عضوي و"حياتي" لسد الرمق، على العكس مما يحاول البعض ترويجه من أن التونسي مرفه ويحصل على الكماليات. والواضح اليوم حسب ما يجمع عليه الخبراء أن الوقت قد حان لإجراءات حقيقية وواقعية لا ذر رماد على العيون قبل أن يزيد واقع التونسي تعقيدا. كما يستغربون من إجراءات للحد من الأسعار وزيادة الأجور وأخرى ل"ابتلاع" هذه الزيادات من خلال الجباية والفوائد المديرية، التي تكاد تتحول إلى "عقاب" للتونسيين. إنعاش المقدرة الشرائية بين «الهبّاط» والمساحات الكبرى قام خبراء المعهد الوطني للدراسات الاستراتيجية بمحاولة وضع خارطة طريق تتضمن إجراءات استعجالية وأخرى آجلة قصد إنعاش المقدرة الشرائية المتهاوية للتونسي. وانطلقت الاقتراحات من احتساب مؤشرات الأسعار الأوّلية لسلّة تحتوي على عدد من المواد الاستهلاكية الضرورية، لتفضي النتائج المتحصّل عليها إلى ارتفاع غير مسبوق لأسعار العديد من المواد خلال سنة 2018 مقارنة بسنة 2010 ثم بسنة 2015. واعتبارا لهذه النتائج الصادمة، وفقا للعبارة الواردة في الدراسة، "تمّت صياغة عدة حلول لمواجهة هذا المدّ المزعزع للاستقرار في البلاد"، وتنقسم هذه الحلول إلى عاجلة ومنها دعم دور هياكل الرقابة الاقتصادية والتحكم في مسالك التوزيع وإعادة هيكلة سوق الجملة وتحسين الوسيط (الهبّاط) وتطوير دوره من مجرّد وسيط إلى تاجر جملة، وتفعيل دور المجامع المهنية في التدخل لتعديل الأسعار، والتنسيق بين وزارتي الفلاحة والتجارة لمزيد التخطيط لإيجاد توازن بين العرض والطلب، وتحجير توريد المواد الاستهلاكية والمنتوجات الفلاحية التي يمكن صناعتها في تونس باستثناء المواد الأساسية كالزيت والحبوب، وإخضاع تجارة التفصيل بما في ذلك المساحات التجارية بسقف نسبة أرباح لا يتعدى 20 بالمائة. أمّا الإجراءات الآجلة فتتمثل في الرفع من الإنتاج والإنتاجية وربط رفع الأجور بالإنتاجية. والتحكم في السوق الموازية، والتشجيع على الاستثمار لتطوير الإنتاج والترفيع من الكميات المعروضة لمجابهة ضغط الطلب وتخفيض الأسعار. إضافة إلى التخفيض من نسبة الفائدة قصد النزول بقيمة الدين المدفوعة من طرف المستهلك، ودخول المؤسسات الصناعية الوطنية المتجانسة في تجمعات. توفيق بن جميع (منظمة الدفاع عن المستهلك) أزمات المستهلك متتالية... والمسؤولون في السياسة «غارقون» كيف تقيمون الوضع الحالي للمقدرة الشرائية للمستهلك ؟ للأسف الوضعية أصبحت من سيئ إلى أسوا. وهي تزداد تأزما. وما نلاحظه هو أن حزمة الإجراءات المقترحة في كل مرة لتطويق الأسعار لم تعد نافعة، باعتبار أنها لا تتزامن مع تطبيق فعلي وملموس على أرض الواقع. ما نطلبه اليوم وعلى الأقل هو تكثيف المراقبة الاقتصادية على المواد الأساسية والتي تهم قفة المواطن، فنحن لم نعد نبحث عن الكماليات، والحال أن الأساسيات لم يتم التحكم في أسعارها. ما نحذر منه هو أن الوضع سيزداد تأزما لا سيما مع قرار ترفيع نسبة الفائدة المديرية من 6.75 إلى 7.75 بالمائة. فهذا القرار سيزيد في تراجع المقدرة الشرائية في الأسر التونسية وهو يهم 690 الف عائلة لها قروض، وستزيد معاناتها مع ارتفاع نسبة الاقتطاع من الأجر، بالتالي المقدرة الشرائية ستتهاوى. والازمة ستنهش العائلات التونسية. هل تعتقدون أن الإجراءات المتعاقبة للحكومة ساهمت في تقليص المنحى التصاعدي للأسعار ؟ إن حزمة الإجراءات التي يتم الإعلان عنها في كل مرة خالية من التطبيق. للأسف نحن نشعر وكأن ملف المقدرة الشرائية قد رفع عنه الجميع أيديهم، في وقت يعاني المواطن من ارتفاع في أسعار المواد الغذائية ومواد التنظيف والملابس والتجهيزات. وفي وقت تراجعت فيه الإنتاجية وتباطأت عجلة التنمية. والأسوأ أن المواطن سيصطدم بفاتورة الكهرباء التي ستكون قاسية بعد صدمة فاتورة الماء صيفا. وسيواصل انتقاله من أزمة إلى أخرى. والواضح اليوم أن حزمات الاجراءات لم تعد كافية لتطويق الأزمات. فلا بد من اجتماع قومي لحل أزمة الاقتصاد والمقدرة الشرائية، وتوفير الحلول. لكن يبدو أن المسؤولين والسياسيين نسوا الأساسيات واهتموا بالسياسة والاحزاب. أما المعاناة في الجهات الداخلية فهي أكبر مما هي عليه في العاصمة.