مات الخليفة الهادي بشكل مفاجئ ولم يمض على حكمه سوى سنة وبعض ايام وتولى هارون الرشيد الخلافة من بعده في 14 ربيع الاول سنة 170 هجري وعمره لا يتجاوز الخمس وعشرين سنة . وكان الهادي في عهده القصير شديد الحزم ، قوي الشخصية يعاقب على صغائر الامور ويقف من وزرائه وولاته موقفا صارما على عكس والده المهدي الذي كان يميل الى التسامح بل بلغ به الامر الى ان يدع زوجته الخيزران تدير بعض الامور حتى اصبح لها قول في كثير من امور الحكم في عهده . فلما جاء الهادي ابطل كل ذلك ، بل انه توعد والدته بالعقوبة ان هي ظهرت للناس مرة اخرى كما توعد حاشيته واعوانه وارهبهم من التصرف عكس ارادته . فكان المقربون منه لا يأمنون على انفسهم ، ويخشون ان تدور عليهم الدوائر بسبب كثرة الوشايات والدسائس . اتخذ الرشيد يحيى البرمكي وزيره الاكبر بعد ان خبر حنكته السياسية ودوره النابه في عهد والده وبعد ان علم تعريضه لحياته للخطر من اجله حين عارض الهادي في مسألة ولاية العهد ، وخلق من المبررات ما جعل الهادي يتردد ولو كان يحيى صاحب انتهازية وصولية لنافق في موقفه وآثر ان ينعم بمكانته وموقعه على حساب اخلاصه ونزاهته ، لذلك قدر الرشيد ذلك وعهد اليه بالوزارة كما عهد الى ابنائه عددا من الوزارات المرموقة . ولعل هذا كان احد المطاعن التي تعلل بها بعض رواة السير لاظهار الصورة المتخيلة عن ان الخليفة ترك الامر للبرامكة وخاض في مجالس اللهو والشراب والنساء ، غير ان هذا القول لا يجد في الواقع المسجل في كتب التاريخ الموثوقة ادنى برهان يؤكده . وقد لخص الكاتب المصري عباس محمود العقاد سيرة الرشيد بقوله « هارون الرشيد علم على سلطان الدولة الاسلامية ، حيثما سمع بها السامعون ، وتحدث بها المتحدثون وهو في هذا المعنى من طراز « رمسيس « في الدولة المصرية القديمة ، ومن طراز « لويس الرابع عشر « في دولة فرنسا الحديثة فكلهم قد اصبح نموذجا للملك على السنة الخاصة والعامة بغير استقصاء او توسيع كبير في مراجعة التاريخ . والرشيد لم يكن اوسع الخلفاء ملكا ولا اوفرهم متعة ولا اقدرهم في جميع المناقب والمزايا ولكنه ظفر بهذه الشهرة الشعبية لاسباب متعددة يرجع بعضها للحق وبعضها للمصادفة كما يغلب على كل شهرة شعبية قديمة او حديثة . فهو اول من استقر له الملك من ابناء بيته بعد اسلافه الذين كانوا مشغولين بالتوطيد والتمكين وهو اول من اجتمع في بلاطه الادباء والشعراء والندماء بعد ان كانوا متفرقين غادين او رائحين وهو الخليفة الذي طال ملكه واتسع الامد في المشارق والمغارب لترداد ذكره اذ كان غيره لا يلبثون ان يذكروا حتى يبادرهم الخلع او يطويهم الموت « . يتبع