حتى في آخر أيام الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة لم تعرف الدولة التونسية أزمة مالية مثل التي تواجهها اليوم وتهدّد بحصول صدمة اجتماعية قوية في المدى القريب وذلك نتيجة انزلاقات خطيرة أهمها على الاطلاق استفحال الاقتصاد الموازي. تونس (الشروق) ومع تواتر مؤشرات إفلاس الدولة التي بلغت من العجز عن تنفيذ قرارات حكومية تندرج في نطاق ميزانية الصرف مثل تسوية وضعيات أعوان الحظائر أو صرف رواتب المدرسين المناوبين أو تطبيق الزيادة في جرايات المتقاعدين يندفع السؤال بخصوص «الحماية السياسية» التي يتمتع بها الاقتصاد الموازي الذي يحتكر اليوم أكثر من نصف العجلة الاقتصادية وأدى منذ 2011 الى تشكل هوة عميقة في موازنات الدولة والصناديق الاجتماعية والاحتياطي الرسمي للعملة الصعبة. والأخطر من ذلك أن تفقير الدولة يتحول اليوم الى تجويع لفئات واسعة من المجتمع باعتبار الارتباط العضوي لجزء هام من النسيج الاقتصادي بميزانية الدولة ومن ثمة فإن تعثر هذه الأخيرة في تنفيذ التزاماتها المالية تجاه المقاولين أو المزودين يهدد بقطع أرزاق مئات الآلاف من العمال في القطاع الخاص. مخاوف البنوك بل إن قرارات المؤسسات البنكية بدأت تتأثر بمؤشرات الافلاس التي تخيّم على القطاع العام ومن ذلك أن البنوك رفضت مؤخرا تمويل محطات الطاقة الشمسية على خلفية أنه محفوف بالمخاطر لأن الستاغ بأزمتها المالية الخانقة لن تقدر على خلاص الخواص الذين سينتجون الكهرباء لحسابها؟ وفي السياق ذاته أدركت معالجة أزمة «الدوفيز» منعرجا خطيرا من خلال إجبار مؤسسات عمومية كبرى على إيجاد خيوط اقتراض خارجية لتمويل وارداتها مثل النفط والغاز والحبوب وذلك للحفاظ على قدر أدنى من احتياطي العملة الصعبة يقي من حصول حالة هلع من انهيار أسرع للدينار ينقل ظاهرة تهريب العملة الصعبة الى طور أخطر. ثروات خيالية ومقابل تعمّق فقر الدولة والصناديق الاجتماعية والقطاع الاقتصادي المنظم والفئات الاجتماعية التي تخضع للواجب الجبائي يراكم بارونات التهريب والتجارة الموازية ثروات خيالية حيث أن قيمة الأداءات التي ابتلعها 29 من رؤوس التهريب والتوريد العشوائي الذين شملتهم الحرب على الفساد تناهز 6060 مليارا من المليمات وهو ما يرجح أن إجمالي الأداءات التي كان من المفروض أن تستخلصها الدولة من النشاط الموازي يعادل أضعاف ميزانية الدولة. وهذا الوضع الغريب يدعم بالنتيجة جاذبية الاقتصاد الموازي حيث أن زيادة الضغوطات الجبائية على القطاع المنظم لسدّ الفقر الذي يتسبّب فيه الاقتصاد الموازي فرض على عديد المؤسسات الانتاجية والخدماتية الانتقال الى الموازي أي الاشتغال دون تصريح بالأداء أو بالعمال. مجتمع المافيا وبالنتيجة تواجه فئات واسعة من المجتمع شبح الجوع الذي قد يقلب الشارع التونسي رأسا على عقب في خضم عجز الحكومة عن فرض مقاربة إدماج وتدابير هيكلية تفيد الاقتصاد الموازي الى مستويات ما قبل 2011 أي ٪20 من الناتج الاجمالي والانحياز الواضح للبرلمان الى بارونات الموازي من خلال الفيتو المفروض على أي بادرة تفرمل هذا العالم مثل قانون العفو في جرائم الصرف أو قانون الطوارئ الاقتصادية ا لذي في غيابه تجبر أجهزة الدولة على انتهاج المسلك القضائي المعقد لاستخلاص آلاف المليارات التي أفضت إليها المراجعات الجبائية المعمّقة على رؤوس التهريب. ومن هذه الزاوية تبرز الأبعاد السياسية الحقيقية لتغول الاقتصاد الموازي الذي لم يكن ليحصل لولا انصهاره ضمن أهم مكونات المشروع الاخواني القائم بطبعه على مفهوم الموازي. و الأخطر من ذلك أن هذا الفيروس تحول بفعل التراكم الى وقود للحياة السياسية برمتها بقوة المال يهدد اليوم باكتمال ما يسمى «مجتمع المافيا» الذي لا يزال في بلد مثل رومانيا قادراعلى قلب الحكومة تلو الأخرى رغم انقضاء أكثر من ربع قرن على إطلاق ما يسمى «الانتقال الديمقراطي».