إعداد: كمال بالهادي ارتاح قلب العم ولملم عباءته ونهض ليزف النبأ لأمه، أمّا ساجدة فلقد ومضت فرحة عميقة في عينيها غلفتها قطرتان من الدمع دارتهما سريعا حتى لا يراها أحد. كان صدام رفيق عمرها منذ أن هرب من بيت عمه في القرية وطرق باب بيتهم حاملا رغبته المتأججة في أن يلتحق بالمدرسة، ومن يومها وهو لم يغادر بيتهم إلا ليعود إليه ولقد شبّت معه وتنقلت معه – أو تنقل معها – من تكريت إلى بغداد، وصاحبت نموه وتفتحه ونضجه وراقبت نضاله وهو يتصاعد مع صعود وعيه، وأضمرت له في قلبها احتراما وتقديرا وإكبارا، قلما كانت تفصح عنه كعادة البنات في الأسر المحافظة. وعندما عرفت منذ شهور أنه استطاع اجتياز الحدود بسلام بعد محاولة اغتيال قاسم، وأنه الآن آمن اطمأنت روحها القلقة واستشعرت السلام في أعماقها، وتمنت له أن يعود إلى وطنه منتصرا وها هي ذي الآن قد صارت خطيبته فمتى تراه يعود؟؟ لن تطول السنوات بالفارس المسافر، ولن يظل شراعه سابحا في بحر بلا شاطئ فهناك خلف الأفق عما قليل سوف يضئ «الفنار»، ويعود كل قارب إلى مرساته وهو نفسه يحس في داخله بأن ذلك اليوم لن يكون بعيدا فهو يثق في شعبه ويؤمن إيمانا راسخا بقوى حزبه ويدرك فوق ذلك بأن هذه هي إرادة التاريخ. ومع ذلك فإن المناضل الحقيقي يمارس نضاله على الدوام مهما كان المكان الذي يدفعه إلى البقاء فيه بعض سنوات عمره. وهكذا كان صدام حسين بمجرد هبوطه أرض القاهرة، انضوى تحت لواء التنظيم الحزبي في مصر وما فتئ يتصاعد في مراتبه بتصاعد نضاله حتى صار عضوا في لجنته القيادية التي كانت تشرف على التنظيم، ليس داخل مصر وحدها، وإنما على التنظيمات الأخرى المنتشرة في شمال إفريقيا العربي وقطاع غزة والسودان والجزيرة العربية كذلك. وكان لابد، أن يلفت النشاط الكبير الذي يمارسه وتمارسه خلايا وفرق تنظيمه كلّها. أنظار أجهزة الأمن المصرية وهي أجهزة كانت تتضخم – لسوء الحظ- في تلك الفترة بسرعة سرطانية وتبحث عن ممارسة نفوذها وسيطرتها المستقلة في بعض الأحيان عن نفوذ وسيطرة الدولة في توجيهاتها المركزية – بحكم تضخمها نفسه – عن طريق بعض الإجراءات الكريهة إزاء المناضلين العرب الذين اتجهوا للاحتماء بالخيمة المصرية من قهر الطغاة في بلادهم، ومع أن تلك الممارسات الكريهة كانت تقع على المواطنين المصريين أنفسهم، فإن صورتها ووقعها على المناضلين العرب كانت أبشع وأشد نكرا. بين الحين والآخر، كان صدام يعود إلى بيته فيجده قد فتش ركنا ركنا، وأن أوراقه قد قرئت ولعلها صورت أيضا، وبين الفينة والفينة يستدعى واحد من الرفاق إلى مبنى المباحث العامة بوزارة الداخلية ويستجوب وتوضع إرادته رهنا بين المطرقة والسندان، بين الترغيب والترهيب، حتى أوشكت القاهرة بالنسبة لهم أن تصبح سجنا آخر. وكان لابد من وضع حد لكل هذه السخافات التي تمارسها أجهزة المباحث العامة، فقرر خمسة من المحكومين بالإعدام أن يتصلوا برئاسة الجمهورية، ويضعوا أمامها صورة لما يجري لهم. كتبوا رسالة واضحة، بأنه إذا استمرت هذه الحملات البوليسية غير المفهومة فإنهم سوف يسلمون أنفسهم للسلطات العراقية التي تنتظرهم لتنفيذ بهم حكم الإعدام. ووقع الرسالة خمسة :صدام حسين، وكريم الشيخلي وحاتم العزاوي وطه ياسين العلي ومدحت إبراهيم جمعة. وبعد وصول الرسالة بفترة قصيرة استقبل الشيخلي مندوبا عن رفاقه، ممثل لرئاسة الجمهورية وقال له الكلمات المناسبة التي تقال عادة في مثل هذه الظروف: والله نحن لا نعلم، إنه خطأ الأجهزة التي تتصرف دون تعليمات.. أنتم بالتأكيد أحرار في وطنكم. المهم أن المتاعب بعدها أصبحت أقل وطأة على الاقل صارت أكثر تحضرا أو أشد خفاء مما كانت قبلها. يتبع