نحاول بهذه الحلقات من أدب الرحلات إمتاع القارئ بالتجوال في العالم رفقة رحّالة وكتّاب شغفوا بالترحال وأبدعوا على اختلاف الأنظار والأساليب في وصف البلدان، سواء انطلقوا من هذا القطر أو من ذاك، مع العلم بأنّ أكثرهم من المغرب الكبير ووجهاتهم حجازيّة لأولويّة مقصد الحجّ وغلبة المشاغل العلميّة والثقافيّة على آثارهم باعتبارهم فقهاء وأدباء، على أنّ الرحلة تكون ممتعة أكثر مع آخرين جالوا في قارات أخرى. مع التّجاني في رحلته التونسيّة الطرابلسيّة (2) وبعد استطراد فلكيّ حول النجم سهيل إذ ظهر لهم وصل بهم المسير إلى زيتون الساحل الذي أفسده الأعراب ( ص 83 – 87) . « وهو كلّه قرى متّصلة البعض بالبعض» نقلا عن الرشاطي من كتابه « اقتباس الأنوار»، وانتهى بهم بعده عند موضع أمّ الأصابع، يسمّى اليوم الرقة، وبه آثار رومانية حسب تعليق المحقّق (ص 88) . ومن برشانة وقصر زياد لاحت لهم جزيرة قرقنة، ثمّ وصلوا إلى صفاقس فاستغرق وصفها وأخبارها وشعر شعرائها والقرى المجاورة لها أكثر من عشر صفحات (ص 89 – 101) . ومنها جبنيانة ولبيدة. ثمّ اجتازوا على طينة ونقّطة، وهما قصران للمرابطة، ومن بعدهما المحرس فقصور المباركة، « وهي كلّها عامرة، وأهلها موصوفون بالبخل « ( ص 101 – 102). وبعد ليلة بوذرف دخلوا قابس التي ممّا يقال عنها « أنّه لا يجتمع في مائدة صيد البرّ وصيد البحر وأصناف التمر إلاّ في مائدة من يسكن قابس ( ص 103) . ذكر التّجاني من محاسنها ما يلي : « على قابس سور صخر جليل من بناء الأول، ولها أرباض واسعة، وجلّ أسواقها في أرباضها. وقد دار بسورها خندق متّسع يجرون الماء إليه إذا خافوا من نزول عدوّ عليهم، فيكون أمنع شيء لها. ولها واد يسقي بساتينها ومزارعها، ويخترق في كثير من مواضع الغابة دورها وشوارعها، وأصل هذا الوادي من عين خرّارة في جبل بين القبلة والمغرب منها، وأكثر جنانها فيما بين المدينة والبحر. وبتلك الجهة السّاحة المعروفة بساحة عنبر « ص 103-104). وذكر من مساوئها ما يلي : « ومن المكاره التي حفّت بها جنّة قابس ما يتعاهدها من الوباء وينتاب ساكنها من الأمراض، وسبب ذلك فيما يذكر أهلها كثرة شجرة الدفلى بها، فيكتسب الماء منها لدى جريه سمّية ومرارة تضرّ بأبدان ساكنيها كثيرا، ولذلك لا تجد وجوه كثير من أهلها إلاّ مصفرّة. وفي هذا البلد أيضا فساد وتغيّر سببه كثرة عفوناتها، وليس في جميع مياهها ما يسلم من ذلك إلّا العين المعروفة بعين الأمير، والعين الأخرى المعروفة بعين سلام، فإنّ ماء هاتين يسلم من الفساد لعدم مروره على الدّفلى . والأولى منهما منسوبة للأمير الأزدي المعروف بابن الصّغير، وأمّا الثّانية فالمشهور في اسمها عين سلام باللاّم مخفّفة، وهي إنّما توجد في عقودهم القديمة عين سنام بالنون. وممّا يذكره أهل قابس وهو من جنس الخرافات ما حكاه البكري عنهم : أنّ مدينتهم كانت سالمة من الوباء إلى أن احتفروا فيها موضعا توهّموا أنّ فيه مالا، فاستخرجوا منه تربة غبراء فحدث الوباء عندهم بسببها من ذلك الزّمان. وقد اشتهر عن أهل قابس ما اشتهر من بيع فضلاتهم، وهم يقرّون بذلك ويدّعون شدّة احتياجهم إليها، وأنّ النّخيل في بلادهم لا يثمر إلاّ به. ومن رسالة لأبي مطرّف ابن عميرة في وصف قابس، وكان ولي قضاءها في مدّة الخليفة المستنصر رحمه الله: « بلد غوطيّ البساتين، طوريّ الزّيتون والتّين، فأمّا النّخل فجمع عظيم، وطلع هضيم، وسكك مأبورة ونواعم في الخدور مقصورة، وأنّ بقعته لوارفة الظلّ آمنة الحرم والحلّ، جنّة لو نزع ما في صدور أهلها من الغلّ، وبالجملة فهو تامّ الغرابة مدهام ( أو مدلهمّ) الغابة، مستأثر بسيّد من سادات الصحابة، ولا عيب بتربته إلاّ وخامة مائها، وحميّات قلّما يعرى من عدوانها (يقصد الزواحف السامّة) « ( ص 104 – 105) . ثمّ استعرض التجاني أخبار بني جامع المتملّكين بقابس في فترات انقسام البلاد إلى إمارات ( ص 109 – 114)، وبعدها أخبارها في إطار الصراع بين الموحّدين والمرابطين تبعا لما كان بين شرف الدين قراقوش وبين علي بن إسحاق الميورقي المعروف بابن غانية إلى أن خلّصها الناصر بن علّناس بن حمّاد الموحّدي سنة 601 ه / 1204 م ( ص 114 – 119). قال التجاني : «وانتقلنا عن قابس (...) ففارقنا بمفارقتها أرض النوائل واجتزنا في أرض إخوتهم الوشّاحيين ثمّ في أرض المحاميد منهم» ( ص 124) . وأضاف : « وكان نزولنا بظاهر كتانة، وهي قرية صغيرة ملتفّة الشجر، حسنة المنظر، كأنّها بستان واحد خضرة ونضرة. وعامّة شجرها الزيتون (...) ولأهلها قصر كبير يأوون إليه. وبها عين فوّارة عذبة قد اجتمعت منها بركة ماء متّسعة تلاصق سور القصر من جهة غربيّة، وتخرج مذانب ومسارب تخرق الغابة فتعمّها بالسقي» (ص 125). ومنها إلى الزارات « وهي قرية ذات نخل كثير وماء غزير ينبع من عين حمئة. وقد اجتمعت لدى منبعها أيضا بركة ماء متّسعة القطر بعيدة القعر. ومن هذه القرية كان الابتداء بسلوك منازل البربر المستمسكين بمذهب الخوارج، المستحلّين لدماء المسلمين وأموالهم . وهذا المذهب هو الغالب على جميع البقاع التي بين قابس وطرابلس وخصوصا أهل الساحل منهم ( يقصد الشريط الساحلي) . فهم بهذا المذهب المذموم يتقرّبون ببيع من يمرّ بهم من المسلمين للرّوم، فتجد الناس لأجل ذلك يتحامون الانفراد في قراهم، ويتجنّبون إيواءهم وقراهم ( بكسر القاف، أي إطعامهم). وهم من بقايا الشرذمة الضّالة التي قام بها أبو يزيد مخلد بن كيداد في إفريقيّة» ( ص 125). ومن أجيم اجتاز التّجاني والركب الأميري إلى جزيرة جربة، فقال بعد تحديد مساحتها: « وهي أرض كريمة المزارع عذبة المشارع، وأكثر شجرها النّخيل والزّيتون والعنب والتّين. وبها أصناف كثيرة من سائر الفواكه إلاّ أنّ هذه هي أكثر ثمرها وعليها مدار غلاّتها، وغيرها من كرائم الأرضين لا يقاربها على الجملة في ثمارها أو يساويها. وتفّاحها لا يوجد في جميع بقاع الأرض له نظير لما يوجد بها منه صفاء وجفافا وطيب مذاق، وعطارة استنشاق، ورائحته توجد من المسافة المديدة، والأميال العديدة. وكان من شجره بهذه الجزيرة قبل هذا كثير ثمّ قلّ الآن بسبب أن النصارى يتحفون به ملوكهم وكبارهم دون تعويض لأربابه عنه فرأى أهل الجزيرة أنّ غيره من الشّجر أعود بالفائدة عليهم فقطعوا أكثره. واختصّت هذه الجزيرة أيضا دون غيرها من البلاد بحسن الأصواف المحمودة الأوصاف التي ليس بإفريقية لما ينسج من أثوابها نظير. وذلك معلوم من أمرها شهير. وأكثر مساكن أهلها أخصاص من النّخيل، يجعل كلّ واحد منهم في أرضه واحدا أو اثنين أو أكثر من ذلك، ثمّ يسكنه بعياله، وليس بها بناء قائم إلاّ دور قليلة. وهم ينقسمون إلى فرقتين، فرقة تعرف « بالوهبية» ورئاستهم في بني سمومن، وأرض هذه الفرقة من الجزيرة الجهة الغربية فما والاها من جهة الشمال، وفرقة تعرف « بالنكّارة» ورئاستهم في بني عزون، وأرضهم الجهة الشرقيّة فما والاها من جهة الجنوب» ( 127 – 128) . وكما يستطرد التجاني بالتاريخ والشعر يطنب في المعطيات الإتنيّة كهذا المثال من قوله : « وبنو يزيد أربعة أفخاذ من دبّاب تحالفت وانتسبت على مدلول الزيادة، لا إلى رجل متسمّ بيزيد. وهم: الصّهبة والحمارنة والخرجة والأصابعة. فأمّا الصّهبة بسكون الهاء فبنو صهب من جابر بن فائد بن رافع بن دبّاب. وأمّا الحمارنة فبنو حمران بن جابر إخوتهم. وأمّا الخرجة بسكون الرّاء فجماعة من آل سليمان بن رافع بن دبّاب، أخرجهم بنو عمّهم آل سالم بن رافع من أرضهم فمالوا إلى محالفة هؤلاء وساكنوهم بمنازلهم هذه، وكانت أرضهم أرض مسلاتة وما قارب منها. وأمّا الأصابعة فهم منتسبون إلى رجل كانت له أصبع زائدة، ودبّاب يطعنون عليهم نسبهم ويذكرون أنّهم خارجون عنهم» ( ص 136) . (يتبع)