العنصر الثاني في رؤية صدام حسن، يكمن في تكييف التكنولوجيا وطنيا وتكييف اتجاهات استخدام العلم. فلا يجب أن نأخذ كل مبتكرات العلم والتكنولوجيا ونضعها في الاستخدام كما هي انما نكيفها أو نكيف البعض منها على ضوء أهدافنا وظروفنا السياسية والاجتماعية والاقتصادية. ولابد من القول هنا إن مسألة تكييف التكنولوجيا وطنيا هي من أهم المسائل التي شغلت وتشغل بال المفكرين الاقتصاديين التقدميين في البلدان النامية. بل حتى في البلدان الغربية نفسها إن المفهوم الصحيح للتكنولوجيا نفسها في نظر هؤلاء المفكرين هو : تطبيق مجتمع محدد للعلوم بحثا عن حلول لمشكلات محددة يواجهها معتمدا على الامكانات المتاحة له مستلهما القيم الحضارية التي يؤمن بها. وذلك لأن أي اختراع يهتدي اليه الانسان كما جرى في الماضي يمكن أن يظل مجرد موضوع للتأمل ولا يؤثر في الانتاج مطلقا إن لم يكن يقدم حلا لمشكلة واقعية يواجهها المجتمع بالفعل ويدرك أهميتها ويطمح الى السيطرة عليها . إن كل إنجاز من إنجازات التكنولوجيا هو ظاهرة اجتماعية. ويتسم بسمات المجتمع الذي أنجزه أو على حد تعبير البعض (يحمل رمزه الوراثي) ولذلك فإن فاعليته تقترن بتوافر البيئة التي نشأ فيها وتتدهور اذا غابت معالم هذه البيئة والعكس صحيح ايضا. إن التكنولوجيا المستوردة كثيرا ما تشبه عملية زرع الاعضاء في جسم غريب اذا لم تتوفر لها نفس بيئتها. وليس من المستغرب اذن ان تواجه بعض المجتمعات هذه التكنولوجيا المستوردة – غير المتكيفة وطنيا وبيئيا – كما يواجه الجسم الاعضاء الغريبة أي بالرفض. إن التنمية لا يمكن أن تفيد معنى التقليد أو الاستنساخ لحضارة الغرب ونفي الشخصية الحضارية لكل شعب فليس أهم ما يميز الانسان هو القدرة على التقليد والمحاكاة. بل إن اهم ما يميزه هو القدرة على الابداع والخلق. ومن ثم فإن (التحديث) الذي فهمه معظم قادة الدول النامية وأكدت ذلك الفهم تجاربهم التي فشلت – وربما كان محتما عليها أن تفشل – هو القدرة على استخدام ما ينتجه الآخرون ويفهمه صدام حسين بمعنى مغاير. بل لنقل مناقضا وهو قدرة المجتمع ككل على التجدد وبناء التجديد في حياته دون أي انقطاع حضاري في شخصيته أو قطع مع تاريخه. الثالث : هو التصنيع أي أن نصنع نحن بطريقنا الخاص وبما يتلاءم وأهدافنا الوطنية وطموحنا القومي. فلا نمتنع عن تصنيع كل ما يمكننا شراؤه. ولا نصنع كل ما يمكننا تصنيعه في الحسابات الفنية والاقتصادية المباشرة والمعزولة عن التصور الاستراتيجي الأشمل. ومن الخطإ ان نقع بمثل هذا التصور وان نتصور ان كل ما بإمكاننا شراؤه يجب ان لا ندخله في خططنا التصنيعية او نتصور ان كل شيء نحتاج الى استخدامه يجب ان ندخله في ميدان التصنيع هذا خطأ. كما أن هنالك خطأ آخر مهلكا ايضا وهو ان يتصور البعض أن مجرد حساب امكانياتنا المالية وحساب حجم ونوع البشر المتوفر لدينا يهيئ لنا مستلزمات القرار الصحيح لاختيار ميدان ونوع الصناعة المطلوب دخولها. إن مثل هذه الحسابات قاصرة وذات فهم اقتصادي وفني قاصر ومبستر للمسألة فيجب ان لا ندخل ميدان التصنيع بحسابات كهذه لأن دخول ميدان التصنيع بمثل هذا الفهم الخاطئ يجعلنا نقع في شباك النقطة المركزية الاولى وهي الهاؤها في ميادين محددة دون الذهاب الى المفاصل المركزية الحيوية التي من شأنها ان تغير مجتمعنا. وتجعل أهدافنا ضمن امكانية التحقق لحساباتنا السياسية الوطنية والقومية التي نطمح اليها. صدام حسين يطرح هنا قضية أساسية في العملية التنموية. وهي استراتيجية التنمية وعلاقتها بالاستراتيجية العامة للمجتمع ككل. إن رفضه الاول لمفهوم التعقيب أو ما يسميه بالاستنساخ لتجربة العالم الغربي لم يكن مجرد إدراك استحالته او لأنه يمكن ان يؤدي الى نتيجة مناقضة تماما لما يتصوره الآخذون به أي الى المزيد من التخلف. وإنما كان رفضه – الى جانب ذلك – لأنه يتصور استراتيجية (مغايرة) لمجتمعه ولوطنه الكبير. وهو من أجل الوصول الى تلك الاهداف الاستراتيجية يطالب بتقبل حتى فكرة (النفقات الضائعة) أو (ما يسمى في الحسابات المباشرة والحسابات التجارية او الاقتصادية المبتسرة المعزولة عن أصل التصور المركزي) لأن تقبل فكرة هذه النفقات الضائعة والى وقت مفيد، لاكتساب الخبرة اللازمة في الميادين التي نطرقها من اجل ان تصبح النفقات المستخدمة في ما بعد غير ضائعة. (يتبع)