يحكي أستاذ الموسيقى العربية الدكتور شوره في كتابه «الياقوتة الأولى في تاج الموسيقى العربية»، أن عبد الوهاب يجيب عن هذه التساؤلات ويرد على كل الاتهامات بطريقة غير مباشرة، ويعدد منجزات الرجل الكثيرة التي لا يمكن اختزالها في مشهد واحد، إذ طوَّر الموسيقار الكبير شكل الأغنية العربية وتمرد على الأداء التقليدي للغناء، فتخلص من الزركشة المبالَغ فيها، إلا في أمور بسيطة مثل أداء «القفلة المصرية»، وهو الشكل اللحني الذي تنتهي به الجملة حين ينطقها المطرب. ارتقى عبد الوهاب كذلك بالقصيدة، حين بدأ انتقاء كلمات لشعراء كبار مثل شوقي وعلي. محمود طه أما على مستوى اللحن، فقد كسر الرجل الشكل التقليدي لتلحين القصيدة وجعلها متنوعة الإيقاعات، كما خلَّصها من المبالغة في أداء المواويل والارتجال، ونجد ذلك واضحًا في مرحلة قصائد «الجندول» و«الكرنك» و«كليوباترا». وفي مرحلة متقدمة، قدَّم عبد الوهاب القصيدة التعبيرية، التي يهدف لحنها إلى التعبير عن معاني الكلام والإحساس به أولًا، ثم تأتي جماليات الغناء في المقام الثاني، بحسب شوره، ومن أبرز ما قدمه في هذا المقام قصيدة «لا تكذبي» وأغنية «فاتت جنبنا». يذكر شوره أن عبد الوهاب هو من قدَّم أغاني الأفلام، مثل «انسى الدنيا» و«بلاش تبوسني»، وقدَّم كذلك الديالوغ الغنائي مثل «حكيم عيون». طوَّر عبد الوهاب الفرقة الموسيقية، إذ أدخل عديدًا من الآلات الموسيقية الجديدة عليها، مثل التشيللو والكونتراباص والغيتار والماندولين والبيانو والأبوا والأكورديون والغيتار الكهربائي والمثلث والكاستانيت وآلات النفخ النحاسية والخشبية، كما أدخل بعض الإيقاعات الغربية في عديد من أعماله، مثل الرومبا والسامبا والتانجو، ممَّا جعل الأغنية العربية تصل إلى العالمية. هذه الإنجازات الكبيرة لا يمكن بأي حال أن تقف على عثرة، مثل الجدل حول اقتباس موسيقار ترك لنا مئات الألحان الأصلية. لم ينكر محمد عبد الوهاب اقتباساته، وفي أحد لقاءاته التليفزيونية ردَّ على الإعلامية ليلى رستم بأن الفن تفاعُل، وعلى الفنان المتطور أن لا يسجن نفسه داخل فنه، بل يفتح أبوابه لكل التيارات الفنية فيهضمها ثم يعيد إنتاجها، لكن المنتَج الجديد لا بد أن يحتوي على إضافة، ثم وضَّح أنه لا يعنيه إذا أُطلق على هذا الخلق الجديد «اقتباس» أو «تأثُّر». ربما لو لم يقتبس عبد الوهاب لكان قد فاز بجائزة «اليونسكو» بدلًا من السنباطي عام 1977 كأول عربي يحصل عليها. (يتبع)