كان صدام يترأس جهاز مخابرات متميز جدا، تمكن من بنائه والإشراف عليه شخصيا، وتوصل إلى زرع الرعب في خصومه وخصوم من يقف في وجه ( الثورة ) . كل حركات البكر، وبقية الرفاق، كانت مراقبة بشدة. جهاز المخابرات كان يتحكم في كل شيء. و مع ازدياد الواردات النفطية طلب البكر زيادة رواتب الضباط والجنود و الموظفين والعمال الأمر الذي قوبل برفض صدام ، على اعتبار ان الوقت غير مناسب، وهو أمر سنجد أسبابه لاحقا. ففي 9 جويلية 1979 م وفي اجتماع لمجلس قيادة الثورة، وبسبب الكآبة التي يعاني منها الرئيس البكر، تحت ضغط إدراك حجم الأخطاء التي ارتكبها طلب الاستقالة من جميع مناصبه الحزبية، بحجة انه مريض. اعترض محيي عبد الحسين مشهدي، على قرار الرئيس وهو سكرتيره الشخصي إضافة إلى مناصب أخرى كان يقودها، وقال له: سيادة الرئيس إن صحتك بخير ولا داعي للاستقالة ! فرد عليه الرئيس البكر بقسوة»وهل أنت تعرف حال صحتي أكثر مني ؟!» و اعتبر البكر مداخلة محيي، تدخلا في حياته الشخصية، وطلب إحالته إلى التحقيق، على أمل أن يحصل على عقوبة حزبية، لأنه ناقش الرئيس. و تقاليد الحزب " الثوري" لا تحب المناقشة مع القادة، وإنما تقوم على مبدأ ( نفذ ثم ناقش ). قال صدام حسين لكاتب سيرته الصحافي اللبناني فؤاد مطر :(لم يكن أحمد حسن البكر في وضع صحي ميؤوس منه ، ولكنه كان لا يحتمل أن يأتي يوم يقرأ في أعين العراقيين وغيرهم تساؤلات عن وضعه، من نوع: ماذا ينتظر لكي يرتاح؟ وهل إنه يريد أن يكون مثل الجنرال فرانكو الذي اختار من يخلفه، لكنه رفض حتى لحظة رحيله أن يتخلى عن الحكم). وفعلا بدأت الإشاعات تملأ بغداد عن ( إعادة ترتيب البيت العراقي ) في ضوء المرض الخطير الذي أصاب رئيس مجلس قيادة الثورة الأمين العام لحزب البعث احمد حسن البكر منذ الخريف الماضي على الرغم من ان الخليفة المؤكد هو نائبه صدام الذي يدير منذ فترة طويلة شؤون الدولة و الحزب نيابة عن البكر و بمساعدة عدد من الموثوق بهم. ووصف تقرير للمخابرات البريطانية، صدام بأنه ( شجاع وذكي لكن لا يؤمَن جانبه ) ويفتقد الشعبية الحزبية ويحاول أن يقلد عبد الناصر لكنه لا يملك طلته وبلاغته وقربه من الناس على الرغم من الجهود التي تبذلها الصحافة العراقية الرسمية وحتى صحافة لبنان المقربة من البعث العراقي . وأشار إلى أن تعديل تركيبة وعضوية عدد من المؤسسات الحزبية والحكومية والتشكيلات الأخيرة في قيادات الجيش والشرطة تشير كلها إلى ترفيع انصار صدام والموالين له وأبناء عشيرته بهدف السيطرة الكاملة على شؤون الدولة رغم ان زميلي السفير السوفياتي لا يتوقع تغييرات في القيادة السنة الجارية لأنه لا يزال في الأربعين من عمره. وأشار التقرير إلى ان المشكلة الكبيرة قد تحدث اذا مات صدام او قُتل او أصبح عاجزاً عن الحكم، عندها سيعود العراق الى الفراغ وسيعود العراقيون والبعثيون الى الاقتتال في ما بينهم كما ان الشيوعيين قد يعودون الى السطح من دون استبعاد ( ثورة شيعية ) للاستيلاء على جزء من السلطة او للحصول على حكم ذاتي في مناطقهم الغنية بالنفط، حسب تحليل السفير البريطاني. كانت كل أجهزة المخابرات العالمية ترقب ما يحدث في العراق، وكانت متأكدة من أن عهد أحمد حسن البكر، قد انتهى و أن الشاب الطموح صدام حسين يتأهب لتقلد منصب رئيس الجمهورية. ومن خلال تحركات صدام منذ العام 1968، كانت تلك الأجهزة تبلغ حكوماتها بأنه رجل صعب المراس، وبأنه رجل لا يمكن أن يكون خادما مطيعا لمصالح الإمبريالية في المنطقة، بل إنه تم تصنيفه ضمن أعداء الإمبريالية حتى قبل أن يصبح رئيسا لجمهورية العراق. (يتبع)