نحاول بهذه الحلقات من أدب الرحلات إمتاع القارئ بالتجوال في العالم رفقة رحّالة وكتّاب شغفوا بالترحال وأبدعوا على اختلاف الأنظار والأساليب في وصف البلدان، سواء انطلقوا من هذا القطر أو من ذاك، مع العلم بأنّ أكثرهم من المغرب الكبير ووجهاتهم حجازيّة لأولويّة مقصد الحجّ وغلبة المشاغل العلميّة والثقافيّة على آثارهم باعتبارهم فقهاء وأدباء، على أنّ الرحلة تكون ممتعة أكثر مع آخرين جالوا في قارات أخرى. شوفاريي (فيليب) : النصف الثاني ق 19 م وقد أخبره الأعراب بوجود نقيشة كبيرة هناك، لكنّه لم يعثر عليها عند زيارته للمكان في ربيع 1876 م . كما أخبروه بوفرة المياه في موسم الأمطار عند سيلها من الجبال نحو سهل السقي (Segui) حيث لا منفذ لها فتصير بحيرة. ويتوسّط السهل «دوّار» أو دشرة لعرش من بني زيد قبالة مسلك يعرف بأمّ العقول (Oum El-Agueul) حيث موقع أثريّ يتوسّط الطريق بين قابسوقفصة، به نقيشة مجزّأة على قطع من عمود تعذّرت قراءتها إمّا لوضعها مطمورة الجانب المكتوب وإمّا للطقس الملوّث بالرياح الرمليّة. فلعلّها علامة على مفترق الطرق بين عدّة مدن من بلاد الجريد إلى الساحل. تلك إذن نقائش هامّة جديرة بأن يعود إليها في ظروف أحسن ليستمدّ منها معلومات قد تساعد على تحديد مراكز عمرانيّة أشارت إليها الخرائط والمسالك، على حدّ قوله وعزمه ( ص 10 – 11) . ومثلها جدار أثريّ في موقع أمّ علي لم يتمكّن صاحب الرحلة من تحديد هويّته ووظيفته بل تساءل إن كان علامة حدوديّة بين بدو الصحراء وسكّان الساحل في العهد الروماني . لذلك ترك المكان وواصل السير غربا حتّى وصل بعد حوالي ساعة إلى معلم أثريّ روماني أشبه بضريح، بارتفاع يناهز ستّة أمتار وعرض يساوي 65 صنتم، يعرف ببردع أو بردعة (Dj.Barda) الذي يغلق من الجهة الغربيّة سهل السقي المذكور أعلاه . وهناك ظهرت له قمّة جبل القطار، على طريق قفصة، حيث مرّ بعد ثلاث ساعات بهنشير الباب وكأنّه قلعة أو حصن بقي منه باب متّصل بجدارين متوازيين، لا شيء حوله ( ص 12 – 14) . وفي الغد اتّجه شوفاريي إلى وادي القصب مارّا بآثار غير ذات أهمّية بهنشير زلوز (Hr. Zlouz) لكنّه أدرك بعدها آثارا أكثر قيمة، تبدو بقايا لمدينة نوميديّة ترومنت فيما بعد أو جاورتها مدينة رومانيّة حسب ما يستنتج من نمطين من البناء متجاورين، نمط جلموديّ على اليمين ونمط حجريّ صقيل على اليسار. وبحكم موقعها بدت ميسورة الدخول من الجنوب ومنيعة من الشمال حيث تضيق الجبال حتّى لا يبقى بينها غير مجرى الوادي. ومن آثارها لفتت نظره قناة أو حنيّة في مستوى الأرض تمتدّ على جانب المجرى لتختفي غربا في جبال ينبع منها وادي القصب . ذلك الموقع الأثريّ النوميدي الروماني يسمّيه أعراب المكان هنشير الفقيرة عليمة (Hr.Feguira Alima) فما هو إذن الاسم القديم ؟ ( ص 14-15). هنا يجتهد شوفاريي ليرجّح أنّه موقع تالة (Thala) إحدى مدائن الجنوب الغربي، بنفس اسم إحدى معتمديات القصرين، الذي يعني العين أو النبع . رجّح ذلك لتشابه الموقع مع موقع قفصة ولقرب العيون الجارية ولتوافق صفاتها كمدينة عتيقة مع الصفات التي خصّ بها صالوست (Salluste) مدينة تالة بناحية قفصة ونطقها باللاّتينيّة تالام (Thalam) ما لم يتعلّق الأمر بتصحيف. وأهمّ تلك الصفات أنهّا، مثل قفصة، بعيدة بنفس المسافة عن الجيوش الرومانيّة، فلا يمكن الوصول إليهما - أي تالةوقفصة - إلاّ بعناء شديد بعد اجتياز سهول شاسعة قاحلة ومعطشة، كما أنّهما محميّتان طبيعيّا من الجهة الشماليّة . ولكنّ اجتهاد شوفاريي في حاجة إلى نقيشة تدعمه إذا عاد إليها مرّة أخرى، على حدّ قوله وحسب أمله في العثور عليها (ص15). وبالمناسبة ذكر هذا المستكشف أنّ بلّيسيي (Pellissier) – وهو أيضا رحّالة وأثريّ فرنسيّ – قد سبق أن حدّد موقع تالة هذه بسفح جبل بوهدمة، على مسافة عشرين كيلومترا شمال الموقع المعنيّ بالكلام . وحجّة شوفاريي في الاعتراض على بلّيسيي أنّ هنشير قريّش (Hr.Gueraech) الذي اعتبره بلّيسيي موقع تالة لا ينطبق عليه التشابه مع موقع قفصة عند كلامه على تالة، لا باعتبار الموقع ولا باعتبار العيون التي باسمها تسمّى في اللغة البربريّة، على ما ذكره صالوست أعلاه. وبالتالي لا يمكن أن يطلق اسم تالة على مكان لا نبع فيه ولا حذوه (ص 16). التعليق: أمام ندرة المعلومات عن جهة الجريد وكامل المنطقة من قابس إلى قفصة يقدّم لنا شوفاريي رحلته كمصدر هامّ لدراسة الجغرافيا الطبيعيّة والبشريّة وعلم الآثار. وفيها كان منقّبا عن معالم التاريخ القديم، وخاصّة في العهد الروماني، أكثر من أيّ اهتمام آخر، بما يبيّن أنّ الحضور والتأثير لذلك العهد كانا شاملين لكامل المقاطعة الإفريقيّة بما فيها الجنوب . وذلك العهد، بالنسبة إلى الرحّالة الأوروبيين، وبخاصّة الفرنسيين، هو الأصل الطبيعي المبرّر للاستعمار كعودة إلى ذلك الأصل – بعد تجاوز العهد العربي الإسلامي – في نظرهم . (انتهى)